دقّت أنقرة أخيراً مسماراً جديداً في نعش مستقبل «جبهة النّصرة» بوصفها كياناً تنظيميّاً قائماً في حدّ ذاته. وبعد تأجيلات متكرّرة، أعطت الأجهزة التركيّة الضوء الأخضر للإعلان عن تشكيل «الجبهة الوطنيّة للتحرير» في ضوء رفض «النصرة» في شكل نهائي وقاطع الاندماج مع «فيلق الشّام». ويُشكّل «الفيلق» حجر الزاوية ومركز الثقل الأساسي في «الجبهة الوطنيّة للتحرير» التي ضمّت إليه عشر مجموعات مسلّحة أخرى، معظمُها محسوب على «الجيش الحر». وخلافاً لكثير من التشكيلات الاندماجيّة السابقة التي مُنيت بفشل سريع يبدو التشكيل الأخير مرشّحاً لضمّ مجموعات أخرى إلى صفوفه، تمهيداً لإلحاقه بـ«الفيلق الرابع» تحت راية «الجيش الوطني» الذي تتولّى أنقرة هيكلته وتوجيهه، أو استحداث «فيلق خامس» تحت الراية ذاتها. وكان «الجيش الوطني» قد تشكّل في نهاية العام الماضي من ثلاثة «فيالق»، قبل أن يُعلن عدد من المجموعات تشكيل «الفيلق الرابع» في آذار الماضي. ويعزّز حظوظ «الجبهة الوطنيّة» في التوسّع المطّرد ما أكّده مصدر «عسكري» محسوبٌ عليها لـ«الأخبار» حول مواقفها من تفاهمات «خفض التصعيد» المنصوص عليها في جولات أستانا المتتالية. وقال المصدر إنّ «الغرض الأساسي من تشكيل الهيئة الوطنيّة للتحرير هو السعي إلى لم شمل المعارضة المسلّحة، ورص صفوفها لمواجهة تحديّات المرحلة المقبلة». وأضاف: «هذه التحدّيات ليست عسكريّة بالضرورة، فمعركة المفاوضات تتطلّب رصّ الصفوف بدرجة لا تقلّ عن معارك الميدان». وأوضح المصدر أنّ «موقف الهيئة في المرحلة الراهنة واضح، وهو التزام كل الاتفاقات التي تمنعُ تكرار سيناريو الغوطة في مناطق الشمال المحرّر»، وشدّد في الوقت نفسه على أنّ «ثوابتنا لم تتغير لكنّ الوقت حان لتثمير كل التضحيات التي قُدمت في السنوات الماضية، وهذا أمرٌ يتطلّب وعياً سياسيّاً كبيراً وفهماً لضرورات كل مرحلة». ولا يبدو هذا الكلام مفاجئاً، نظراً للعلاقة الاستثنائيّة التي تجمع بين أنقرة، وبين «فيلق الشام» أبرز مكوّنات «الجبهة» الجديدة. ويعرف عن «الفيلق» انسجامه التام مع توجّهات أنقرة وتوجيهاتها، ويُنظر إليه بصفته أبرز الأذرع العسكرية (الباقية) لـ«جماعة الإخوان المسلمين». ومن المرجّح أن تلعب «الجبهة» الوليدة دوراً سريعاً ومؤثّراً في تثبيت تفاهمات «خفض التصعيد» في مناطق انتشارها، لا سيّما في ريفي حماة الشمالي واللاذقية الشمالي الشرقي. وكان مخطّط تشكيل «الجبهة الوطنيّة» حاضراً في حسابات أنقرة بصفته «الخطة ب». أما «الخطة أ» فكانت تطمحُ إلى إنهاء ملف «هيئة تحرير الشّام/ جبهة النصرة» المعقّد، عبر دمجها بـ«فيلق الشام» تحت مسمى ثالث ومنح زعيم «النصرة» الفرصة لـ«خروج مشرّف» من المشهد السوري وتهيئة «ملاذ آمن» له.
تزيد التطورات الأخيرة من فرص تسرّب مقاتلي «النصرة»

ووُضعت نواة العرض المذكور على طاولة الجولاني منذ آب الماضي (راجع الأخبار، 16 أيلول 2017). وأُدخلت لاحقاً تعديلاتٌ كثيرة على الصيغة المطروحة، من دون أن تفلحَ في دفع زعيم «النصرة» إلى الإقدام على «الخطوة الكبيرة». وكانت آخر جولات التفاوض في هذا الإطار قد وصلت إلى طريق مسدود قبل نحو عشرة أيّام وفقاً لما تؤكّده لـ«الأخبار» مصادر «جهاديّة» مطّلعة على التفاصيل. وعلى رغم أنّ رفض الجولاني كان متوقّعاً، فإنّ بعض الأطراف السوريّة المعارضة كانت تعوّل على نجاح الضغوط المتزايدة في تغيير موقف زعيم «النصرة». وتزاوج الضغوط المذكورة بين «الترغيب» و«التّرهيب»، وتتساوق مع التطوّرات الميدانيّة المتتالية في إدلب وريف حلب الغربي. وتبدّلت معطيات كثيرة منذ طرح المقترح قبل قرابة تسعة أشهر، صبّ معظمها خارج كفّة «النصرة» وأسهم في استنزافها على غير صعيد. وشهد شهر شباط الماضي حدثين هامّين على هذا الصعيد، أوّلهما تشكيل «جبهة تحرير سوريا» وتدشينها على الفور معارك حامية الوطيس ضدّ «النصرة» في ريفي حلب وإدلب (راجع «الأخبار» 22 شباط 2018). أما الحدث الثاني فكان تشكيل جسم «قاعديّ» جديد حمل اسم «تنظيم حرّاس الدين» وشكّل مغناطيساً يعمل بصمت لاجتذاب أكبر عدد ممكنٍ من «قاعديي النصرة». وتؤكد معلومات «الأخبار» أنّ عودة «النصرة» إلى الحضن «القاعدي» عبر بوّابة «حرّاس الدين» ما زال خياراً مطروحاً أمامها، على رغم العداء الشديد بين معظم قادة التنظيم من جهة وبين الجولاني من جهة أخرى. وتزيد التطورات الأخيرة من فرص تسرّب مقاتلي «النصرة» تباعاً («الأنصار» نحو تشكيلات سوريّة، و«المهاجرون» نحو «حرّاس الدين» على الأرجح)، وتضاعف في الوقت نفسه صعوبة استمرارها في صورة «كيان جهادي مستقل». وتشير المعلومات إلى «مصلحة مشتركة» بين أطراف عدّة في إعادة استقطاب «جهاديي النصرة» إلى صفوف التنظيم الأم «القاعدة» بغية الإفادة منهم في «جولات جهاديّة مستقبليّة خارج سوريا». ويعدّ «القاعدة» بطبيعة الحال واحداً من أبرز المستفيدين من خطوة كهذه، إضافة إلى أطراف إقليميّة عدّة لا تتشارك مواقف واحدة في ما يخص الملف السوري، لكنّ كلاً منها يطمح إلى توظيف «جولات الجهاد» المقبلة لمصلحته.
الجولاني «سيجاهد» حتى النهاية
لا يبدو زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني مستعدّاً (حتى الآن) للإقدام على «خطوة كبيرة». وأمام التطورات المتلاحقة التي أفضت إلى خسارته أوراقاً كثيرة منذ الإقدام على مغامرة «فك الارتباط» بات الجولاني شديد التوجّس من تبعات أي مغامرة يُقدم عليها. وتشير معلومات «الأخبار» إلى أنّ كواليس «النصرة» تشهد منذ شهرين انقسامات حادّة وتباينات كبيرة في شأن «ما يجب الإقدام عليه». ويحمّل كثير من قادة «الصف الثاني» الجولاني مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بسبب «إصراره على السير نصف خطوة في كل اتجاه». وتؤكد المعطيات المتوافرة أنّ الجولاني قد أبلغ الدائرة المحيطة به أنّه «عازمٌ على المضي في الجهاد حتى النهاية». وما زال الجولاني يحظى بدعم معظم قادة «الصف الأوّل»، وعلى رأسهم «الشرعيّ» عبد الرّحيم عطّون. ولا تبدو «هيئة تحرير الشام» غافلةً عن الأخطار التي يُمكن أن تلحق بها على خلفيّة تشكيل «الجبهة الوطنيّة للتحرير». ويبرز على رأس الأخطار في المرحلة الراهنة خسارة شرائح من المسلّحين المنضوين في صفوف «تحرير الشام» لمصلحة الكيان الوليد، لا سيّما أنّ «فيلق الشام» يحظى بقبول «شرعي» لدى منتسبي «الهيئة» من السوريين تحديداً. وبدت لافتةً مسارعة «الهيئة» أمس إلى الإعلان عن «فتح باب الانتساب لتخريج دفعات جديدة من المجاهدين في الشّمال المحرّر». وأوضح الإعلان أنّ «التسجيل يبدأ من تاريخ 13 رمضان، وحتى ثالث أيام عيد الفطر عبر قواطع إدلب وجبل الزاوية وحماة».