عدوان ثلاثي غربي على سوريا لمقارعة روسيا، وليس لإعادة ساعة التوازانات السورية إلى توقيت جنيف. أن تكون «المهمّة قد أُنجزت»، كما قال الرئيس دونالد ترامب، يعني أنّ الضربة لن تتجاوز المئة والصواريخ الثلاثة التي اعتدى بها الثلاثي الأميركي الفرنسي البريطاني على سوريا. فالتعقيدات التي برزت خلال السجال داخل الادارة الاميركية، بين الرئيس ترامب وقادة البنتاغون أولاً ، ومع الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين ثانياً، أدّت في النهاية الى خفض سقف توقعات رفعته كثيراً ساعات السجال والمزايدة الانفعالية في ساعاته الأولى.
فالحديث، كان قد بدأ عن عملية عقابية شاملة كاسرة للتوازنات الميدانية كاسحة سياسياً، مزعزعة للنظام. لكن ما جرى هو التسوية الوحيدة الممكنة بين أطراف العدوان وبين أهدافهم وحساباتهم وتحفظاتهم المتبادلة والتي جعلت الضربة تستقرّ على مئة صاروخ أطلقت فجراً على منشآت أُخليت قبل الضربة، ومعسكرات تابعة للحرس الجمهوري لإضافة بُعد رمزي، هو أبعد الممكن في الهجوم على الدولة السورية.
وللمرّة المئة ربما، خابت آمال مَن ظنّ من المعارضة السورية ومجموعاتها المسلحة، او ما تبقّى منها، أن الجيوش الأميركية والبريطانية والفرنسية في خدمتها، وأنها ستجتاح سوريا وتسقط النظام كرمى لعينيها. وقد يكون بيان "جيش الاسلام" هو الأكثر صراحة في التعبير عن خيبة الأمل التي أصابتها في وصفه ما جرى بأنه «مهزلة». فما معنى ما حدث؟
بمعزل عن تحليلات جمهور المثالية المغفلة الذي يصدّق مزاعم الغرب حول حماسه لحماية المدنيين، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الاستهدافات الحقيقية لهذه العملية في حجمها الذي استقرّت عليه؟
التمعّن في تفكيك الخطاب الذي واكب او تلا العدوان، يظهر أن هناك هدفين رئيسين لهذه العملية يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالمواجهة الدولية التي تدور في سوريا، بعيداً عن المزاعم الكيماوية. فالهدف الأول هو توجيه رسالة قوية لروسيا بأن الغرب عاد موحّداً في مواجهة عودتها قطباً دولياً كبيراً من البوابة السورية. لذلك أصاب السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنطونوف بقوله إن «الضربات الصاروخية الغربية في سوريا، إهانة للرئيس فلاديمير بوتين، وسيكون لها تداعيات».
حرصت المتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت على القول «إن العملية أظهرت وحدة المعسكر الغربي في تخطيط وتنسيق وتنفيذ العملية». وليس صدفة أن تتركز نيران الهجوم الاعلامي قبل العدوان وخلاله على روسيا، وتوعّد ترامب للروس في سوريا بردّ من الصواريخ الذكية.
استخدم الاميركيون والفرنسيون والبريطانيون أحدث ما في ترسانتهم جميعاً من صواريخ خلال هذه العملية. وانهالت الـB1 الأميركية بصواريخ شبه شبحية من آخر الاجيال من طراز AGM-158 JASSM-ER ، وهو صاروخ دخل في الخدمة الفعلية قبل ثلاثة أعوام، كما أطلقت الفرقاطة الفرنسية FREMM أحدث ما لدى فرنسا من صواريخ جوالة من طراز MDCN واستعان البريطانيون بصواريخ «شادو ستورم».
زعم الخطاب الغربي ان الروس أطفأوا خلال الهجوم رادارتهم في سوريا، وأنهم تركوا للدفاع الجوي السوري أمر التصدي لموجات الصواريخ الغربية، كما زعموا أن صواريخهم لم تواجه اي اعتراض خلال توجهها نحو أهدافها. إن الغاية من هذا الخطاب بديهية وواضحة، وتنحو الى القول إن التكنولوجيا العسكرية الغربية تتفوق على التكنولوجيا العسكرية الروسية، والأهم أنه يمكن اعتباره ردّاً مباشرا على خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في افتتاح حملته الرئاسية قبل أسابيع، ونعيه ذلك التفوق الغربي، بالاعلان عن توصّل الروس الى صناعة صواريخ جوالة، تجرّد جدار الردع الصاروخي الاوروبي الاميركي من قدراته، وتتجاوز التكنولوجيا الغربية.
صحيح أن بوتين تحدث عن منظومة صواريخ روسية جديدة كاسرة للتوزانات على المستوى الدولي، ولكن جوهر الخطاب هو ما ختم به بوتين كلامه من دعوة وجهها الى الغربيين للتعامل بندّية مع روسيا. بيد أن الغرب لا يزال يرفض الاعتراف بعودة روسيا قوة دولية كبيرة، كما يرفض الاعتراف بها ندّا جديرا به، وهو ما عكسه اللجوء الكثيف الى أحدث التكنولوجيا الصاروخية، والذهاب على الفور الى إشعال الجبهة الاولى التي أمكن الغربيين اشعالها لاقامة الدليل على بقاء روسيا مجرد قوة اقليمية كبرى لا أكثر. ومن المفارقات أن يرسم الاستخدام الاستعراضي للقوة العسكرية الاميركية الحدود الفعلية لهذه القوة. وليس غريبا بعد ذلك الا يسقط في يد الروس او ان تلحّ وزارة الدفاع الروسية بعد العدوان على تقادم العهد بالصواريخ السورية، وتحدّرها من العصر السوفياتي، وكفايتها مع ذلك في التصدي للاستعراض الصاروخي الغربي وتكنولجيته الاحدث وإسقاط ٧٠ صاروخا منها.
(أ ف ب )

نسف مسار الحلّ السياسي
يتفرع من الهدف الاول للعملية، هدف اخر هو نسف مسار الحل السياسي السوري الذي ترعاه روسيا وايران في أستانا وسوتشي بالشراكة المستجدّة مع تركيا، وتصورات تنطلق من ميزان القوى الحقيقي في سوريا بعد تضاؤل حجم المعارضة السورية التي رعتها الولايات المتحدة وقطر والسعودية وفرنسا وتركيا، وهزيمتها ميدانيا وسياسيا منذ التدخل الروسي. ولم يكن ذلك ليتحقق من دون ابتعاد تركيا عن التحالف الغربي، بعد خيبة املها من حصولها على دعمه لخطتها لتغيير النظام في سوريا، وتقارب الاميركيين مع الاكراد وتسليحهم في ما يتجاوز الحاجة الى مواجهة داعش، ووقوفهم خلف المحاولة الانقلابية صيف ٢٠١٦ ضد رجب طيب اردوغان.
لا تريد هذه القوى مجتمعة الاعتراف بانتهاء مفاعيل بيان جنيف الذي صاغته في زمن آخر من الازمة السورية في حزيران من العام ٢٠١٢، عندما كانت المعارضة المسلحة تهدّد فعلا المراكز المدنية السورية، وتخترق حمص، وحلب، ودرعا، وأرياف اللاذقية، ودير الزور، وتمسك بالطوق الدمشقي، وتقف على حافة ساحة العباسيين على مسافة أقل من كيلومتر واحد من قلب العاصمة دمشق، وقصر الشعب. اذ مهد وزير الدفاع الاميركي جيمس ماتيس للعملية بالقول ان «الوقت حان لإنهاء الحرب الاهلية في سوريا، والتوصل الى حل سياسي على قاعدة بيان جنيف» وأعاد جان ايف لودريان، وزير الخارجية الفرنسي إحياء الحديث عن ذلك بالقول «انه ينبغي استئناف عملية جنيف»، بعد ان أدّى تجاوزها الى سوتشي واستانا، الى اغلاق ابواب التدخل الفرنسي في تحديد مستقبل سوريا. إن إحياء بيان جنيف، تبرير يضاف الى ذريعة الكيماوي، لكن استخدامه يصوب على ذلك التعاون الروسي التركي في الملف السوري، ويحاول تخريبه فيما يتجاوز سوريا الى ملفات استراتيجية اخرى، دون تقديم اي بديل حقيقي سوى الرغبة بمنع الروس والأتراك والإيرانيين بالانفراد برعاية الحلّ السياسي السوري بدرجات متفاوتة.
لم تعد التسوية المعقودة على الضربة بين دونالد ترامب، وجيمس ماتيس الى حجمها الحقيقي فحسب مظهرة تواضع الاهداف "السورية " من العملية. ولكنها بيّنت أن الصراع مع روسيا، هو محرّك هذا العدوان، وأن سوريا فرصة لن يفوتها الغربيون لمواجهة الروس في ميدان مفتوح، لاستعراض ترسانات الصواريخ والاساطيل، على ساحل شرق المتوسط، والمياه الدافئة التي وصلت اليها روسيا ولو بعد حين.
(أ ف ب )