لا تزال تداعيات فشل المساعي الإسرائيلية في فرض معادلتها على الساحة السورية تتواصل على المستويين السياسي والإعلامي. أبرز هذه المفاعيل، التي تجسّدت في اتفاق خفض التوتر في الجنوب السوري، أنّه أدخل صانع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، في «ورطة» اتخاذ قرار مفصلي. تنبع هذه الورطة من حقيقتين، الأولى أنه ليس قادراً على التسليم بالواقع المتشكل في الساحة السورية، مع ما ينطوي عليه من تهديدات متصاعدة، والثاني أنه ليس قادراً على تغيير المعادلة السورية بشكل جذري.
نتيجة ذلك، صدرت مواقف وتقديرات، تستند إلى «حكمة ما بعد الهزيمة»، ترى أن عدم التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر في الساحة السورية لمصلحة الجماعات المسلحة كان خطأً استراتيجياً. وهو ما يعني أن تل أبيب بدأت الآن تدفع ثمن هذا الخطأ، وأن عليها محاولة الحد من تداعياته.
لم يحل فشل رهانات تل أبيب السابقة في التأثير على مجرى المحادثات الروسية الاميركية، بخصوص المرحلة التي تلي دون مواصلة نتنياهو محاولاته السياسية مع جرعة أعلى من الرسائل «التهويلية» بهدف أخذ مخاوف تل أبيب بالحسبان. وهو ما كانت تخشى منه، عندما كانت تعارض بشدة القضاء على «دولة داعش» في الساحتين السورية والعراقية، بل ترى أن السيناريوات التي كانت تتخوف منها بدأت بالتحقق، وخاصة أن البديل من «داعش» هو سيطرة محور المقاومة الذي يشكل تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي.

تطوّر الصواريخ سيلحق خسائر بمئات الأضعاف في الجبهة الداخلية


أما وقد سبق السيف «العذل»، وبات على إسرائيل أن تتعامل مع الواقع كما هو، بكل ما ينطوي عليه من تهديدات وتحديات وفرص مفترضة، عمد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى محاولة رفع مستوى القلق لدى موسكو وباريس من سيناريو تضطر فيه إسرائيل إلى تبني خيارات لا تريدها، ابتداءً (بل الأدق أنها لا تستطيع تحمل كلفة مفاعيلها وتداعياتها). ولا يبعد لاحقاً أن تحاول بشكل متعمد ومدروس التلويح بلعب دور «جن رب البيت»، عبر الحديث عن مرحلة اللاخيار التي تتراجع فيها حساباتها للكلفة في ضوء التهديدات المتصاعدة على الأمن القومي الإسرائيلي.
معالم هذا المسار بدأت تتشكل على يد نتنياهو الذي أكد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن التمركز الإيراني في الساحة السورية، يتعارض مع المبادئ الأمنية الإسرائيلية. وأراد بذلك الإيحاء بأن تل أبيب باتت محشورة في خياراتها، وقد تضطر إلى اللجوء إلى خيارات استباقية منعاً لتشكّل هذا الواقع. وبما أن روسيا باتت مدخلاً إلزامياً لأي ترتيب سياسي وأمني على الساحة السورية، ومن مصلحتها عدم نشوب مواجهة عسكرية مع إسرائيل، كان نتنياهو حريصاً على أن يدلي بهذه المواقف على مسامع بوتين.
في السياق نفسه، كشفت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي أن نتنياهو أوضح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه «يدرس مهاجمة أهداف إيرانية في سوريا». وأشار إلى أن «إسرائيل ستعمل عسكرياً إذا دعت حاجاتها الأمنية إلى القيام بذلك». في المقابل، ذكرت القناة الإسرائيلية أن ماكرون حذّر نتنياهو من «القيام بخطوات متهورة».
من الواضح أن هدف هذه الرسائل، التي يتوقع أن تستمر في الأيام والأسابيع المقبلة، هو دفع موسكو للضغط لكبح المسار الذي تتخوف منه تل أبيب. لكن التجربة حتى الآن أثبتت أن رسائل تل أبيب ورهاناتها كانت فاشلة في أغلب الأحيان. أما بالنسبة إلى المخاوف التي تهيمن على وعي صانع القرار في تل أبيب، فقد أجملها معلق الشؤون الأمنية في موقع «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، بالقول إن «التقدير السائد في المؤسسة الأمنية أن الإيرانيين وشركاءهم، حزب الله وسوريا، باتوا قادرين على التسبب بخسائر وأضرار للجبهة الداخلية والعسكرية، أكبر مما كان يمكن أن يسببوه قبل سنوات». وأضاف أنه «بعد سنتين أو ثلاث، سيكون التهديد على الجبهة الداخلية أخطر بكثير». ورأى بن يشاي أن السبب الأساسي لذلك، ليس زيادة كمية الصواريخ التي يمكن إيرانَ أن تسقطها على إسرائيل، بل الفعالية القاتلة لهذه النيران التي ستتساقط علينا ليس فقط من لبنان وإنما أيضاً من سوريا. ورأى معلق الشؤون الأمنية أن «هذه الخسائر والأضرار التي ستلحق بالجبهة الداخلية المدنية والعسكرية قد تتضاعف إلى مئات المرات». وأعاد بن يشاي هذا التطور في الخسائر إلى ما اعتبره «التحول في الدقة» التي يسعى الإيرانيون إلى إدخالها على جميع عناصر النيران التي ستستهدف في أي مواجهة عسكرية شاملة الأهداف النوعية في إسرائيل، والتسبب بوقوع أعداد كبيرة جداً من الخسائر والأضرار الاستراتيجية العسكرية بمئات أضعاف ما تسببه آلاف الصواريخ غير الدقيقة. والتطور الثاني الذي رفع مستوى الخطورة في تل أبيب، أن الساحة السورية انضمت إلى الجبهة الشمالية ضد إسرائيل، الأمر الذي يعني أيضاً أن جهود الجيش الهجومية ستنقسم إلى قسمين، بدلاً من أن تتركز على الساحة اللبنانية. ولفت بن يشاي أيضاً إلى أنّ الوجود الروسي سيقيّد نشاطات سلاح الجو الإسرائيلي.