رغم زحمة الأحداث الاستثنائية التي تدور في الشمال والشرق السوري، لا يغيب عن بال القوى الكبرى ما يدور في الجنوب «القلِق». فمنذ فترة وجيزة، عاد المتفاوضون الى العمل على تحقيق اتفاق كامل يتعلق بتخفيف التصعيد في المنطقة الجنوبية، بعدما كانوا قد أعلنوا في الأشهر الماضية عن تفاهم أولي حول المشروع. وبالفعل، أُعلن في الثامن من الشهر الجاري، عن توقيع مذكرة تفاهم تخص منطقة «تخفيف التصعيد» تلك، بين موسكو وواشنطن وعمّان.
بيت جن خارج الاتفاق... وإسرائيل «غير معنية» به

تُظهر الخرائط التي نشرتها وزارة الدفاع الروسية نقاط انتشار قوات المراقبة الروسية التي تتوزع على 10 نقاط مراقبة، ونقطتي عبور تصل مناطق سيطرة الدولة بالمناطق التي يسيطر عليها المسلحون (نشرت «الأخبار» في آب الماضي بعض نقاط انتشار القوة الروسية حسب مذكرة التفاهم حينها. وبالنظر إلى الخرائط، يتبيّن أن النقاط تنتشر بداية من بلدة سعسع (15 كلم جنوبي شرقي بلدة بيت جن الواقعة في ريف دمشق الجنوبي)، وحتى آخر نقطة جنوباً في مدينة درعا. هذا التوزع حمل الإسرائيلي إلى التحرك اعتراضاً. ويشير مصدر مطلع على المفاوضات في حديث إلى «الأخبار» إلى أن «المسلحين والإسرائيليين حاولوا بشتى الطرق الضغط لإدخال منطقة بيت جن (ريف دمشق) في الاتفاق، غير أن القيادة في دمشق أوصلت الرفض القاطع للقيادة الروسية، التي تجاهلت الضغط الإسرائيلي، ما أخّر إتمام الاتفاق». وفي الفترة الماضية، عزز الجيش السوري ضغطه عسكرياً على المسلحين في بيت جن، ما أثار حفيظة الأردنيين، وحاولوا إيصال رسائل إلى الجانب الروسي بأن يشمل الاتفاق تلك المنطقة، فكان الجواب بأن المنطقة المذكورة تقع في ريف دمشق الجنوبي ولا علاقة لها بالاتفاق الذي يشمل فقط درعا والقنيطرة وأجزاء من الأطراف الغربية لمحافظة السويداء. يعلّق مصدر عسكري سوري لـ«الأخبار» بالقول: «منطقة بيت جن لها أهمية عسكرية كبرى، ولا يمكن تأجيل تحريرها، فالمنطقة هناك ترتبط بجنوب لبنان ولها امتداد طبيعي الى مزارع شبعا. ولا يمكن إبقاء هذا الممر مفتوحاً».
وفور إعلان المذكرة الأخيرة، عاد الإسرائيليون إلى تكرار مواقفهم، في سعي لفرض بند يقضي بإبعاد «القوات الأجنبية» إلى مسافة تتجاوز الستين كيلومتراً عن حدود الجولان المحتل، أي وصولاً الى طريق دمشق ــ السويداء. وأكد رئيس أركان الجيش غادي إيزنكوت، رفض إسرائيل وجود حزب الله والقوات الإيرانية قرب الحدود. هذا التباين في المواقف مع الروس، الذين نفوا تقديم أي تعهد بهذا الشأن، يؤكد خطورة الاتفاق بالنسبة إلى الإسرائيليين. كما يؤكد هشاشته وضيق احتمالات نجاحه. ويشرح مصدر سوري مطلع لـ«الأخبار»: «نحن ننظر إلى الاتفاق على أنه فرصة جديدة لتحسين الوضع الجنوبي، وخصوصاً أن الأفق العسكري بالنسبة إلى المسلحين أصبح مسدوداً، وبالتالي هم سيقضون على بعضهم البعض، فهؤلاء لا يمكنهم التعايش مع (اللاحرب)». ويضيف المصدر: «رغم ما نراه من أمور جيدة في الاتفاق، إلا أننا لا نعوّل عليه كثيراً، إذ نعتقد أنه لن ينجح بشكل كامل، فالإسرائيليون لن يتركوا الأمور تجري بعكس أهوائهم، وسيعملون على إقحام المسلحين بعمليات لخرقه، وإغرائهم بالدعم المدفعي والجوي، وهذا ما حدث مرات عدة؛ وآخرها في حضر الحدودية». بالنسبة إلى قوات المراقبة الروسية، تشير مصادر مطلعة الى أن «القوات الموجودة في الجنوب السوري لا تكفي لتطبيق الاتفاق، وهي تنتشر في نقاط متباعدة، ولا تمتلك قدرات جدية لضبط الوضع على الأرض». يُذكر أن قوات المراقبة الروسية سبق أن أخلت نقاطاً لها عندما وصلتها معلومات عن نية المسلحين مهاجمة بلدات قريبة، وبالتالي يطرح هذا تساؤلاً حول جدّية موسكو والأطراف الأخرى في تطبيق الاتفاق والحفاظ عليه.

تتهم بعض
فصائل الجنوب
«النصرة» بالعمل على تصفية قادتها

ما حدث منذ فترة وجيزة في بلدة حضر، غيّر من نظرة القيادة السورية للمنطقة، وثبّت لديها الشكوك التي كانت حول مشروع إسرائيل في المنطقة الحدودية. إذ وجد السوريون، بعد الرصد والمتابعة الأمنية والميدانية، أن قائد عمليات بيت جن والمعروف باسم «مورو» تربطه علاقات طيبة جداً بالموساد. وتبيّن أن العملية الفاشلة التي شنتها «جبهة النصرة» على حضر أخيراً بدعم إسرائيلي واضح، كانت تهدف الى فك الحصار عن بيت جن، وبالتالي تقديم الدعم الكامل لجماعة «مورو»، وفتح خطوط إمداد ودعم «رسمية» من الجولان المحتل والمنطقة الحدودية بهدف استكمال مشروع المنطقة العازلة.

الفصائل الجنوبية: بين الخارج و«النصرة»

لا يبدو أن الحضور الأردني والأميركي في الجنوب يتمتع اليوم بنفس القوة والسيطرة. إذ ظهرت أخيراً مؤشرات عدة على أن بعض الفصائل الجنوبية بدأت تخرج عن سيطرتهما، وخصوصاً بعدما أعلنت واشنطن وقف برنامج دعم المسلحين في نهاية العام الحالي. وتوضح مصادر مطلعة في حديثها إلى «الأخبار»، أن «الفصائل تشكو ضعف التمويل والدعم بشكل واضح أخيراً، وبعض الفصائل اختارت الانضمام إلى (جبهة النصرة) عملياً، حيث تتمتع الأخيرة بدعم لا يزال مقبولاً، مقارنة بباقي الفصائل». الملامح الإسرائيلية هنا تظهر بقوة، داعمة ومدربة وممولة، وحتى مشاركة في الحملات العسكرية.
وبعد الاتفاق الأخير، سادت حالة من التذمر أوساط المسلحين، إذ اعتبر أغلب الفصائل أن الأردنيين والأميركيين تخلوا عنهم، ويحاولون إرغامهم على الدخول في مشروع «تخفيف التصعيد». الخلاف بين المسلحين والخارج، شكّل حالة من الانتقال من حضن غرفة العمليات المشتركة «موك» وغيرها، إلى حضن «النصرة» التي لا تزال تحافظ على حضورها القوي، وخصوصاً في درعا.
في المقابل، تشير تقارير جديدة إلى أن 19 فصيلاً من مناطق مختلفة في سوريا، شكلت «قيادة عسكرية عليا»، في خطوة أولى سعياً إلى تنسيق أكبر بين الفصائل على مختلف الجبهات. لكن اللافت هنا، أن أغلبية الفصائل المنضوية في المشروع هي فصائل جنوبية معروفة، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على بداية تشكّل «وعي» جديد لدى تلك الفصائل، إذ بدأوا يفهمون أن الضغوط التي يتعرضون لها من الخارج تهدف إلى دفعهم نحو «النصرة» وبالتالي إسرائيل، ما يعني استفرادهما بالقرارين العسكري والسياسي في الجنوب، وهذا ما ترفضه الفصائل، التي تتهم أصلاً «النصرة» بالعمل على تصفية قيادات الفصائل الأخرى من خلال الاغتيالات شبه اليومية. ووردت معلومات تفيد بأن تحضيرات تجرى لنقل مجموعات من «قوات أحمد العبدو» و«أسود الشرقية» الموجودة في محيط منطقة الركبان الحدودية، بمعيّة الأميركيين والأردنيين، إلى ريف درعا الشرقي عبر الداخل الأردني، بهدف تعزيز الجبهة هناك تحضيراً للمرحلة المقبلة.
إذاً، لا يزال المشهد في الجنوب السوري غامضاً. وكل المؤشرات تشير إلى أن اتفاق «تخفيف التصعيد» لا يعدو كونه اتفاقاً شكلياً حتى الآن. أما الفصائل المسلحة فتتكتّل وتبحث عن التمويل والدعم. وفي المقابل، فإن الجيش السوري وحلفاءه يتابعون عملياتهم في محيط بيت جن، فيتقدمون ويسيطرون، ويعززون قوّاتهم على طول خطوط التماس الجنوبية.