مرّة أخرى يُفلح أبو محمّد الجولاني في إمساك العصا من الوسط. العاصفة التي كادت تطيحُ قبل فترةٍ أوراق الاعتماد «القاعديّة» الممنوحة للزعيم «الجهادي» توشك أن تنحسر، وإذا قُيّض لجهود المرجعيّات «الشرعيّة» النجاح في وساطة «الصلح خير»، فستكونُ براغماتيّة الجولاني قد نجحَت في إطالة عمر «إمارة إدلب» على أقل تقدير.
وكان عدد من الشخصيّات «الجهاديّة» الاعتباريّة قد أطلق قبل أيام مبادرة تهدف إلى إعادة التوازن إلى البيت «القاعدي» المترنّح، وردّ الاعتبار إلى الجولاني بوصفه المُمثّل الحصري للتنظيم العالمي في «الشام». وخاطبت المبادرة كلّاً من «هيئة تحرير الشام، وجيش أحرار الشام، والإخوة المبايعين لتنظيم القاعدة في بلاد الشام، وجميع الفصائل والجماعات التي عزمت أمرها على تحكيم الشريعة وسيادة سلطانها»، داعية إيّاهم إلى «إلى الرجوع لأهل العلم وتسليمهم الزمام لحلِّ المعضلات والفصل في قضايا الخلاف»، تمهيداً لـ«إعادة ترتيب الأوراق ترتيباً صحيحاً». وذُيّل البيان الأوّل للمبادرة بأسماء عدد من المرجعيّات «الجهاديّة» المعروفة، وعلى رأسهم المنُظّران القاعديّان أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، قبل أن تتوارد أمس أنباء عن سحب الفلسطيني اسمه من المبادرة، لأنّه «ملتزمٌ بقراره السابق بعدم التدخل بشأن جماعات سوريا». وقالت مصادر «جهاديّة» إنّ خطوة الفلسطيني جاءت بسبب «استدعائه من قبل الأمن الأردني» وتذكيره بتعهّد سابقٍ كان قد التزم به، وإنّ «الشيخ سيواصلُ دعم المبادرة والحثّ على تطبيقها من دون أن يخوض علناً في هذا الشأن أو أي شأن سوري آخر». وتهدف المبادرة في جوهرها إلى إعادة جمع شمل «الجهاديين» بعد أن تعرّض لأزمتين خطيرتين: أولاهما موجة الاستقالات المتتالية التي عصفت بـ«هيئة تحرير الشام»، أما الثانية فإصرار معظم «المهاجرين» (وهم الجهاديون غير السوريين) على الخروج من تحت راية الجولاني والعمل على تشكيل تنظيم جديد باسم «جماعة أنصار الفرقان في بلاد الشام»، يتكوّن من «مهاجرين وأنصار ممّن حضر أغلب أحداث الشام الأولى».

جاء تسريب الأنباء
عن تشكيل «أنصار الفرقان» بمثابة ضغطٍ على الظواهري
وكانت مصادر عدّة قد تناقلت قبل ثلاثة أسابيع أنباءً عن تشكيل التنظيم المذكور بالفعل، إضافة إلى مجموعة أوراق قيل إنّها تُشكّل «مبادئ التنظيم». وسرت إشاعات مفادُها أنّ حمزة أسامة بن لادن (نجل مؤسّس تنظيم «القاعدة») سيكونُ على رأس التنظيم. وحصلت «الأخبار» عبر مصادر «جهاديّة» عدّة على تفاصيل ما شهدته الكواليس «الجهاديّة» في خلال الشهرين الأخيرين في هذا الشأن. وتعودُ الشرارة الأولى إلى تسريبات صوتيّة للجولاني يهاجم فيها «الشرعيين» ويصفهم بـ«المُرقّعين»، ما استتبع استقالة اثنين بارزين، هما السعوديان عبدالله المحيسني ومصلح العلياني، ومن ثمّ الإعلان عن انشقاق كتلة «جيش الأحرار» عن «هيئة تحرير الشام». لم تلبث التعقيدات أن تفاقمت مع دخول الجولاني في مفاوضاتٍ سريّة مع أطراف استخباريّة تركيّة لم يُطلِع عليها معظم المحيطين به. ودارت المفاوضات المذكورة في فلك ترتيب المشهد في إدلب لدخولها على خط «مناطق خفض التصعيد»، ووضعت الجولاني أمام خيارين: القبول بعرض يكون مقدّمة لتفكيك «المشروع الجهادي في الشام» ويضمن له في المقابل «خروجاً مشرّفاً»، أو الدخول في حربٍ مباشرةٍ وجديّة مع أنقرة. وكانت «الأخبار» قد أوردت تفاصيل العرض التركي في منتصف أيلول الماضي، ورجّحت سعي الجولاني إلى إيجاد «حل وسط» بفعل الضغوطات الكبيرة التي يرزح تحتها (راجع «الأخبار» العدد 3276) وهو ما حصل بالفعل. ولكنّ الحل الذي رآه الجولاني «وسطاً» وضمِن لأنقرة الدخول العسكري إلى إدلب من دون صدامٍ مع «المجاهدين»، عدّه فريقٌ «جهاديّ» وازنٌ في إدلب بمثابة خيانة كُبرى ترقى إلى خانة «الخروج عن الشرع». وانخرط أصحاب هذا الرأي في العمل على «سحب الشرعيّة» من الجولاني عبر مسارين متوازيين: أوّلهما في صفوف «الجهاديين» على الأرض، وعلى رأسهم «المهاجرون»، وثانيهما عبر مخاطبة «رأس الهرم القاعدي» أيمن الظواهري، ومطالبته بـ«عزل الجولاني». ويبدو أنّ تسريب الأنباء عن تشكيل «أنصار الفرقان» جاء بمثابة ضغطٍ على الظواهري، لا سيّما مع الأنباء عن تزعّم بن لادن له، مع ما قد يشكّله ذلك من «مزاحمةٍ للظواهري»، نظراً إلى ما يشكّله اسم عائلة بن لادن من ثقلٍ معنوي في المشهد «الجهادي» داخل سوريا وخارجها. وعلمت «الأخبار» أنّ الجولاني قد استقبل بالفعل مبعوثاً أوفد من قبل الظواهري على جناح السرعة لمناقشة المستجدّات. ويبدو أن المبعوث قد حمل معه رسائل غاضبة، أدخلت الجولاني في «حالة من انعدام التوازن النفسي»، على ما يؤكّده مصدر «جهادي» بارز لـ«الأخبار». وحمّل الجولاني مبعوث الظواهري «ردّاً مُتلطّفاً، لكنّه حرص على ردّ الاتهامات عن نفسه بلهجةٍ حازمة». ووفقاً للمصدر نفسه، فقد «حاجَج الجولانيّ أميرَه بالقول إنّ الاتفاقات التي وصل إليها مع أنقرة إنّما هي اتفاقات مع حكومةٍ مُسلمة دعمت الجهاد الشاميّ منذ انطلاقته ولا تزال»، وإنّه «سار على هدي المجاهدين الأوائل وعلى رأسهم الشيخان أسامة بن لادن وعبدالله عزّام في حرصهما على عدم الاصطدام بالحكومة الباكستانيّة أيام الجهاد الأفغاني». وأوضحت رسالة الجولاني أنّ «الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه يصبّ في مصلحة جميع الأطراف، فهو يمنح أنقرة القدرة على مواصلة الإمساك بملف الشمال السوري رغم الضغوطات التي تتعرّض لها من الصليبيين (في ما يبدو أنّها إشارة إلى موسكو)، كما يُجنّب عوام المسلمين في إدلب ويلات القصف والدمار، ويمنح المجاهدين الفرصة لالتقاط الأنفاس ووضع استراتيجيّة مناسبة للمرحلة المقبلة». ورغم أن الجولاني لم يتلقَّ بعد جواباً مفصّلاً من الظواهري (وفق المصدر نفسه)، لكنّ المبادرة التي أُطلقت أخيراً تبدو إشارة واضحةً من زعيم «القاعدة» إلى أنّه «اقتنع بحجّة الجولاني». ومن المرجّح، وفقاً للمُعطيات المتوافرة، أن الظواهري آثر القيام بـ«جس نبض المجاهدين» في إدلب ومراقبة تجاوبهم مع المبادرة، قبل أن يُصدر حكمه النهائي في الموقف. ويُعزّز ذلك أن المبادرة المذكورة بدأت باستقطاب بيانات دعمٍ وتأييد من تنظيمات وشخصيات «جهاديّة» وازنة خارج سوريا. وجاء أحدث هذه البيانات أمس من «المفتي» أبو ذر عزّام الخراساني، (يُعرف أيضاً باسم أبو ذر الباكستاني)، وهو أحد رموز «الجهاد في بورما». وكان من بين المؤيدين البارزين للمبادرة «تنظيم قاعدة الجهاد في المغرب»، و«جماعة جند الإسلام في سيناء» (مبايعة للقاعدة)، و«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» وهي جماعة «جهاديّة» تنشطُ في مالي، علاوة على شخصيّات «جهاديّة» معروفة مثل الشيخ أبو الأشبال المغربي، الشيخ أبو أحمد عبد الكريم الجزائري، الشيخ الحسن بن علي الكتاني. كذلك تلقّت المبادرة دعم عدد من «الشيوخ والمجاهدين والشرعيين والجماعات داخل سوريا».