هل تدخلُ خطوط التماس بين تركيّا و«قوّات سوريا الديموقراطيّة» في دائرة «مناطق خفض التوتّر»؟ سؤال بات واجب الطرح في ضوء التطوّرات المتتالية في الشمال السوري. والواقع أنّ قسماً من تلك الخطوط يبدو فعليّاً جزءاً من «خفض التوتر» من دون إعلان رسمي، وليس بالضرورة أن يكون هذا الخفض ناجماً عن رضى تركي، بقدر ما يبدو تسليماً بأمر واقعٍ تفوق مواجهته قدرة أنقرة.
وحتى الآن، تبدو أوضح الأمثلة في هذا الإطار منطقة منبج التي اضطرّت القوات التركية الغازية إلى استثنائها من خطط الغزو بعد انتشار وحدات من الجيشين السوري والروسي على حدودها الإداريّة مع منطقة الباب. لكنّ منبج لم تعُد وحيدة، فعلاوة على دخول قوات سوريّة قبل فترة وجيزة إلى منطقة عفرين منضمّة إلى أخرى روسيّة (راجع «الأخبار» العدد 3211) شهدت مدينة تل رفعت (ريف حلب الشمالي) أمس حدثاً مشابهاً. فإلى المدينة الخاضعة لسيطرة «قسد» (منذ أن استخلصتَها من يد «جبهة النصرة» وحلفائها في شباط 2016 بغطاء جوي روسي)، وصل أمس رتل عسكريّ روسيّ، على رأسه جنرالات برتبٍ متفاوتة، ويضم في صفوفه أفراداً مقاتلين، إضافةً إلى عناصر من الشرطة العسكريّة الروسيّة.

باتت إدلب بمثابة فرصة وحيدة أمام اللاعب التركي لتعزيز أوراقه

ووفقاً لمصادر «الأخبار»، فقد جالت قيادة الوفد في محيط تل رفعت، وصولاً إلى حربل وأم حوش وشيخ عيسى (نقاط تماس مع «درع الفرات»)، فيما انتشر عناصر القوّة في نقاط معدّة سلفاً. ويكتسب هذا التطور أهمية خاصة بالنظر إلى أنّ تل رفعت كانت حتى وقت قريب على رأس الأهداف التركيّة المُعلنة (تعرّضت مرّات عدة لقصف تركي عنيف)، شأنها في ذلك شأن سائر المناطق المحيطة بها والتي يطلق عليها «مجلس سوريا الديموقراطية» تسمية «مناطق الشهباء». وكانت الطموحات التركية تضع في حسبانها طرد «قسد» من تلك المناطق وتهديد عفرين من جهتها الشرقيّة، علاوة على التهديد المستمر من جهتها الشماليّة ليغدو الأمر أشبه بطوق يستحضرُ حصاراً سابقاً تعرضت له عفرين وتناوبت عليه معظم المجموعات المسلّحة من «لواء التوحيد» البائد إلى «النصرة» و«أحرار الشام» و«داعش». ويرى السياسي الكردي المقرّب من «وحدات حماية الشعب» ريزان حدو أن الخطوة الروسيّة «قد تكون مقدمة لتوسيع مناطق خفض التصعيد، ويُعمل على تعزيزها بإجراءات متفق عليها في مرحلة تالية».
ويقول حدّو لـ«الأخبار» إنّ «هذه الخطوة تعزّز خطوات سابقة تمثّلت بانتشار قوات روسيّة في مناطق عدة من ريف حلب الشمالي، وإنشاء مركز قيادة روسي في قرية كفرجنّة التابعة لعفرين». وتقود هذه المجرياتُ أنقرة تدريجاً إلى زاوية أخيرة عنوانها إدلب. وباتت الأخيرة بمثابة فرصة وحيدة أمام اللاعب التركي لتعزيز أوراق القوة في يده قبل جلوس اللاعبين الفاعلين إلى طاولة تفاوض جديّة وحاسمة. وتأسيساً على هذا، يمكن فهم الاستنفار التركي المتزايد في شأن إدلب، ومساعي إلباسها ثوباً مختلفاً عن ثوب «تنظيم القاعدة» الأسود الذي كساها منذ خروجها عن سيطرة الجيش السوري قبل عامين. ولا تزال أنقرة تأمل نجاح «وصفة سحريّة» عنوانها «عزل النصرة» من دون خسارة قوّتها الضاربة، تحسّباً لأي تصعيد اضطراري تبدو «النصرة» المجموعة المسلّحة الأصلح للعب دور فاعل فيه إلى جوار «الحزب الإسلامي التركستاني» وبإشراف أنقرة (راجع «الأخبار» العدد 3096). وفي سبيل ذلك، تتواصل الاجتماعات والمفاوضات في إدلب بين مختلف الأطراف، سعياً إلى إيجاد «واجهة مدنيّة» تتولّى زمام المدينة بموافقة «القاعديين» ومن دون الاضطرار إلى خوض مواجهات ضدّهم. وتقول مصادر محليّة لـ«الأخبار» إنّ «الاجتماعات شهدت تطورات إيجابيّة، لكن لا تزال هناك بعض العثرات». وعلمت «الأخبار» أن الأتراك «منحوا مختلف الجهات المعارضة مهلةً سقفُها الزمني نهاية عيد الأضحى للوصول إلى صيغة توافقيّة». وفي الأثناء، واصلت أنقرة التصرّف في إدلب كأنّها منطقة خاضعة لوصايتها، وكثّفت في خلال الأيّام الأخيرة توزيع المعونات عبر «جمعيات خيريّة»، علاوة على تسهيل وصول قوافل إمدادات أمميّة، وافتتاح وتأهيل مخابز ومرافق خدميّة. ويبدو الأتراك في سباق حقيقي مع الوقت على وقع التقارب غير المعلن بين دمشق وحلفائها من جهة، و«قوات سوريا الديموقراطيّة» (الحليف الميداني الأبرز للولايات المتحدة) من جهة أخرى على صُعدٍ عدّة، أبرزها العسكري. وتتحسّب أنقرة من أن استمرار «صفو الأجواء» قد يقود إلى توافقات جديدة تضع في اعتبارها إدلب هذه المرة. وعلى الرغم من أن علاقة دمشق بـ«قسد» لا تزال على موعد مع تحديّات بارزة، على رأسها معركة دير الزور، غير أنّ مصادر كرديّة تؤكّد لـ«الأخبار» أنّ «مشهد اشتباك عسكري بين الجيش السوري وقسد هو أمرٌ لن يتكرّر». وتوضح المصادر أنّ «هذا الأمر خطّ أحمر، توافق عليه الجميع بغطاء روسي أميركي، وقد أبلغت واشنطن الأكراد رسميّاً بذلك».
ويأتي هذا الكلام في وقت تواردت فيه إلى «الأخبار» أنباء (لم ترقَ بعد إلى خانة المعلومات المؤكّدة) عن أن «قسد» مدّت يد العون إلى الجيش والقوات الرّديفة قبل أيّام في ريف الرقة الجنوبي الشرقي، لامتصاص الهجوم المضاد الذي شنّه تنظيم «داعش» المتطرّف.




تركيّا في زاوية «جميل بايق»

عمليّة استخباراتيّة تركيّة فاشلة في السليمانيّة (إقليم كردستان العراق)، زادت من الضغوط التي ترزحُ تحتها أنقرة في ملفّات المنطقة وحشرتها في زاوية جديدة. العمليّة كانت عبارة عن محاولةً فاشلة لخطف أو اغتيال القيادي الكردي البارز جميل بايق (رئيس «منظومة المجتمع الكردستاني» والقائد السياسي الفعلي لحزب العمال الكردستاني). ويشرح السياسي الكردي ريزان حدّو لـ«الأخبار» إن «بايق تعرّض لعارض صحي اضطرّه لدخول المستشفى، وكان هناك مخطط تركي لاستغلال الفرصة واستهدافه بعملية استخباراتيّة، لكنّ المنظومة الأمنيّة المحيطة به كانت على علم مُسبق بالمخطط وأفشلته». ويؤكّد السياسي الكردي أنّ «الورطة التركية لم تقتصر على فشل العمليّة، بل تجاوزتها إلى وقوع عدد من منفّذيها في قبضة حزب العمال الكردستاني». الّلافت وجود مؤشّرات عدّة على أنّ جهازي استخباراتٍ فاعلَين بقوّة في السليمانية قد لعبا دوراً في إحباط المخطط التركي، وهما الإيراني والأميركي. ورغم أنّ الأخيريَن يقفان على طرفَي نقيض، غير أنّ تلاقي المصالح يبدو كفيلاً بجمع النقائض عند اللزوم.