تونس | صدر عن «دار النقوش العربية» في تونس كتاب لهادي يحمد بعنوان «كنت في الرقة... هارب من الدولة الإسلامية»، تناول فيه قصة شاب تونسي من مواليد 1990 انضم إلى «داعش»، وكيف تحول ذلك الطفل المولود في دورتموند في ألمانيا إلى مقاتل في صفوف تنظيم، أقل ما يقال عنه إنه غير آدمي.
بدأ يحمد القصة ــ وهي محادثة طويلة مع الإرهابي العائد ــ من نهايتها: «الطقس بارد جداً في مدينة منبج، قرب الحدود السورية التركية، وكان الخوف يتملّك ذاته في قاعها رغم تظاهره بينه وبين نفسه بأنه شجاع. ترك سوريا حليق الذقن مثل ما دخلها أول مرة في ديسمبر (كانون الأول) 2014 من الحدود التركية، يصاحبه نواح الكلاب، فقد كانت منبج آخر المدن التي قبع فيها قبل أن يتبع خطى المهرب الذي قاده نحو تركيا، وسط جموع مشبعة بالرعب والتوتر والحنين».
حاول يحمد في محادثته المطوّلة مع الإرهابي العائد، محمد الفاهم، أن ينقل إلى القارئ ثلاثة أمور رئيسية؛ أوّلها شخصية الفاهم وكل ما فيها وما يحيط بها: طفولته، وتديّنه، وعلاقاته العائلية، وحبّه لأمه، وأزمة الهوية، وعلاقته بأمثاله من المتشددين، وشعوره عند الالتحاق والهرب من «داعش»، وتدريبه، وطباعه، وخوفه، وغبطته... كل شيء.

لا ينبغي أن
يفهم الحوار على أنه قصة لـ«بطل» أو أن الكتاب دعاية


ثاني هذه الأمور هو «الدولة الإسلامية» نفسها: مهاجروها وأنصارها، ومقاتلوها، وعلاقات السلطة بين أفرادها، ونمط الحياة في مدنها، والظلم والجور والشكوك الدائمة في ما بينهم، وخيبة أمل المقاتلين المهاجرين وذهولهم من حقيقة «الدولة»، والقتل، والدم، والرعب... وإضاءات كانت تحيط بالإرهابي العائد من الرقة.
ثالثة هذه المسائل، التي أراد الكاتب كشفها في كتابه، هي السياق العام الذي سهّل تجنيد الإرهابيين وإرسالهم إلى ليبيا وسوريا، انطلاقاً من وصف دقيق لمحيط الفاهم منذ طفولته إلى حين وصوله إلى تل أبيض: التدين النشط، والمجتمع المحافظ، والقمع في تونس أيام ابن علي، والفساد الإداري والأمني، وضخّ الأموال وإرسال رجال الدين من دول أجنبية إلى تونس لتوسيع قاعدة المتطرفين... ومسألة أخرى لم يغفل عنها يحمد، هي إشكالية التحديث المزيف الذي طبّقته الأنظمة السابقة في تونس.
هذا التحديث لم يصنع فرداً تونسياً عقلانياً وحديثاً بقدر ما كان مجرد إصلاحات وشعارات لتبرير سلطة النظام في مرحلة ما بعد الاستقلال، التي ما لبثت أن تمخضت عن نظام أمني تسلطي قاده ابن علي، فكانت النتيجة أن انتشر التطرف والعنف باسم الدين في نواحي البلاد، بمجرد تراجع سلطة الدولة بعيد كانون الثاني 2011.
نبّه هادي يحمد إلى أن حواره مع محمد الفاهم لا ينبغي أن يفهم على أنه قصة لـ«بطل»، أو أن كتابه دعاية؛ لقد كان كتاب يحمد بمنزلة آلة دقيقة لتكبير صورة غامضة ومبعثرة عن تنظيم يحزّ رقاب الأبرياء بوحشية؛ فقد تخللت فقراته تعليقات للكاتب يشير فيها إلى فظاعة ما ارتكبت يدا محدّثه، خاصة صورة الجندي السوري في تدمر الذي ثقب نصفه الأسفل بالرصاص ونصفه الأعلى يتشبث بنصف روح... عندما مرّ بجانبه الفاهم غير مبالٍ بزفرات موته.
ما نجح يحمد فيه على وجه الدقة هو أنه حافظ على رواية الفاهم كما هي، فكان صحافياً بامتياز، كذلك وضع القارئ في كل مرحلة من رحلة الإرهابي العائد في سياقها التاريخي والسياسي والعسكري، فكان باحثاً مهتماً وراصداً دقائق الأمور. ولم يغب عن الكاتب نقل طفولة محاوره وكيفية تطور النزعة المتشددة داخله، منذ بدأ الصلاة في سن العاشرة ومرافقته أمه في صلاة التراويح، إلى أن قرر الذهاب إلى الرقة منطلقاً من ليبيا مروراً بتركيا، وما تضمّنته الحكاية من كشف تفاصيل مهمة ومفيدة على مستويات عدة، مع لمسة من التشويق.
عودة مقاتل من الرقة إلى تونس كانت محاطة بعشرات الأسئلة الوجودية التي عصفت برأس هذا الشاب قبل قرار فراره: كيف تحولت تلك الغبطة العجيبة عند دخوله تل أبيض نحو الرقة إلى نقمة على «الدولة الموعودة»؟ كيف لتلك التعاليم الإسلامية في الأخوة والعالمية والمساواة والعدل أن تتحول عداوة وتفرقة بين مهاجرين وسوريين وعامة مسلمين وتحاك بسببها الدسائس والمؤامرات؟ كيف لتلك الطهارة التي يدّعيها شيوخ غسل الأدمغة، أن تتحول إلى فساد ووساطات وغدر وقتل بين أعضاء التنظيم الواحد؟ هل «الدولة الإسلامية»، إسلامية حقاً؟
قارئ «كنت في الرقة... هارب من الدولة الإسلامية» لن يكفّ بدوره عن طرح هذه الأسئلة كلما أدار صفحة أو بدأ فصلاً جديداً من الكتاب، فقد استنطق يحمد الحدث ومحيطه والنفسية الباطنية للشخصية التي أمامه أثناء التجربة وقبلها، بطريقة يكون فيها ما أنتجه «مدوّنة بحثية تحاول تقديم مادة شاملة عن ظاهرة الدولة الإسلامية التي يمكن أن تكون وليدة دولة الحداثة المزيفة».