اللاذقية | تقف أمينة خلف النافذة محاولة شغل نفسها بمراقبة الحياة في الخارج، ويخطر لها أن تحصي أعداد ذوي الإعاقات الذين يعبرون الشارع. ثمة شاب بقدم واحدة يستند إلى عكازين، وثانٍ برجل مضمدة مع أسياخ معدنية ناتئة منها، ومن آخر الشارع تطلّ امرأة تسند شاباً يعرج.
من سوء حظ أمينة أنها ترى البؤس الذي يعمّ البلاد من خلال «عدسة مكبرة»، لكونها تسكن قرب المشفى العسكري، فتصحو على صوت الرصاص الذي تودع به المدينة شهداءها، وتُمضي يومها بمراقبة رواد المشفى. هي أيضاً نالت حصتها الشخصية من هذا البؤس، حين أصيب زوجها المقاتل في صفوف تنظيم «صقور الصحراء» الرديف للقوات الحكومية، بشظايا شوّهت وجهه وبترت قدمه. وعلى الرغم من أن الزوج بات عاجزاً ومشوهاً، فقد ظلت أمينة تنظر إليه بقلبها، هي التي تكبره بعدة سنوات وتزوجته بعد قصة حب طويلة، وفي ظل فقره وبطالته تكفّلت عائلتها بتوفير منزل الزوجية لهما. لكن، طوال العام الذي تلا الإصابة، عاشت أمينة مع رجل عنيف وقاسٍ يرفض التحدث إليها، ويصرّ على النوم في غرفة منفصلة، إلى أن غادر البيت بعد «رميه يمين الطلاق» في وجهها، لتكون المخالعة الرضائية هي النهاية لقصة حب شوهتها الحرب. تقول أمينة: «ما بس الأجساد عم تتشوه، النفوس والأرواح كمان، هاد هو الثمن الأقسى للحرب، يلي ما حدا عم يحكي عنه». الحرب أيضاً دمرت زواج رشا، ابنة مدينة الرقة التي لم ترَ زوجها منذ 4 سنوات، بعد التحاقه بالجيش ونزوحها هي وطفليها إلى اللاذقية. وتشرح: «زوجي عم يخدم بريف دمشق، وما عاد سأل عني ولا عن ولاده ولا صرف علينا، وبالاسم متزوجة وأهلي عم يصرفوا عليّي وعلى أولادي».
وبينما تعمل رشا على إجراءات دعوى الطلاق التي رفعتها ضد زوجها، تصطدم بعائق عدم معرفتها عنوانه، في ضوء إصرار موظف القصر العدلي على إعطاء عنوان واضح لتبليغ الزوج بدعوى الطلاق.
وبينما تتابع رشا شكواها بقهر من ظلم الإجراءات التي قد تبقيها لسنوات أخرى «لا مطلقة ولا معلقة»، يتابع محمد النازح من حلب بصمتٍ إجراءات طلاق زوجته التي هربت برفقة رجل آخر، تاركة وراءها 3 فتيات أكبرهن بعمر 7 سنوات. ويشرح قصته: «تزوّجنا عن حب من 8 سنين، وعشنا بالنا مرتاح وما ناقصنا شي، لكن وقت راح محلي بحلب بالقصف ونزحنا عاللاذقية، الفقر خلّى النفوس تبان على حقيقتها. هربت، ويلي هربت معه بيشتغل (عفّيش) قد الدنيا وقادر يأمنلها كل شي، ما متلي معيشها بغرفة هي وبناتها». ويضيف بقهر: «لك حتى ما حسنت روح وأضربها كف، ما استرجيت، قالولي الناس عشيقها بيخفيك من على وجه الأرض، ومن تم ساكت جيت طلقها».


«شحط» على المحكمة

«هناك فرق شاسع بين اثنين يحضران معاً إلى المحكمة لإتمام إجراءات زواجهما، وبين شخص يتم (شحطه) إلى المحكمة لإرغامه على تثبيت الزواج»، يقول أحد موظفي القصر العدلي في اللاذقية، في حديث إلى «الأخبار». ويلفت النظر إلى وجود عشرات دعاوى «تثبيت زواج ونسب» ينظر فيها القضاء يومياً، في ظل الانتشار الكبير لظاهرة الزواج العرفي، خاصة بين النازحين من حلب. ويشرح الموظف الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أنه «غالباً ما يختفي الزوج بعد فترة من الزواج ويتوقف عن الإنفاق على زوجته، ما يضطرها إلى رفع دعوى لتثبيت الزواج، وهذا عادة ما يولّد الضغينة والخلاف بينهما، وبعد تثبيت الزواج يقوم الزوج بتطليقها»، مضيفاً بتهكّم: «أصبح أهم أسباب الطلاق حالياً هو الزواج».
سلمى ابنة الخامسة عشر عاماً، هي واحدة من ضحايا العقود العرفية. وهي أقامت دعوى تثبيت زواج ونسب في آن واحد، لإثبات نسب ابنها الذي يرفض زوجها (الذي يكبرها بـ20 عاماً)، الاعتراف به. وتشرح قصتها: «تزوجنا عند الشيخ وبوجود أبي وشهود، وكان يتركني كل فترة ويسافر على حلب، وبعد كم شهر ما عاد إجا طاول (أبداً) ولا اتصل، وولدت ابني بغيابه ولما رفعت عليه الدعوى جاب تقرير طبي مزور بأنه عقيم».

أقامت ابنة الخامسة عشرة دعوى
تثبيت زواج ونسب
في آن واحد
ورغم أن القاضي لم يأخذ بالتقرير الطبي المقدّم واعتمد شهادة الشهود بحدوث الزواج، غير أن الزوج طعن في قرار المحكمة، مصراً على التملص من أبوّة ابنه.
ويوضح المحامي تركي النجار في حديث إلى «الأخبار»، أن ظاهرة الزواج العرفي كانت منتشرة قبل الحرب في بعض القرى الحلبية التي لا محاكم فيها، لكن في خلال الحرب ومع موجة النزوح الكبيرة تفشت ظاهرة الزواج بعقود عرفية وخاصة لفتيات قاصرات «لكن معظمهن يتم التخلي عنهن لاحقاً وهذا غير مستغرب لأن حسن النية غير موجود في زيجات كهذه»، مؤكداً أن «العقد العرفي يعاقب عليه القانون، ويشمل العقاب كلاً من الشهود ومحرر العقد، لكن للأسف القانون غير مفعل».
ويلفت النجار إلى أن الحل المتاح أمام هؤلاء الزوجات هو رفع دعوى تثبيت زواج وتثبيت نسب في حال وجود أطفال، مشيراً إلى أن «قرار المحكمة يتخذ إما بناءً على الإقرار أو شهادة شاهدين، لجهة أن القانون السوري لا يعتمد فحص الحمض النووي «DNA» لإثبات الأبوة، في ظل عدم وجود خبراء ولا مختبرات لإجراء هذا الفحص».

«بدنا العالم تتزوج بهالكساد»

يضرب أبو جملو كفاً بكف، حين يشترط المأذون الشرعي وجود شاهدين يحلفان بأن دخله الشهري يتجاوز 50 ألف ليرة شهرياً (نحو 100 دولار)، ليثبت أنه كفء لإعالة زوجتين. أبو جملو، الذي يعمل صياداً، يبدو قلقاً لجهة عدم ثقته بإمكانية عثوره على شاهدين مستعدين للقَسَم بأن صياداً رزقه في البحر، يملك دخلاً شهرياً كهذا.
ويضاف ذلك إلى قلقه من وصول القصة إلى مسامع زوجته الأولى، فيقول له المأذون: «ما طلبنا منك موافقة الزوجة الأولى، لأن بدنا العالم تتزوج بها الكساد»، غامزاً إلى الضوء الأخضر الذي أعطاه القاضي الشرعي الأول في دمشق للتساهل في شروط الزواج الثاني.
وبينما يوكل أبو جملو أمره إلى الله وينطلق للبحث عن شاهدين، يوقع مجد (24 عاماً) على معاملة زواجه، فيما ترتبك عروسه (20 عاماً) حين يطلب منها المأذون الشرعي أن تكتب اسمها وتوقّع، هامسة بخجل بأنها لا تتقن الكتابة، فتكتفي بالبصمة. ورغم أن العريس يؤدي الخدمة الإلزامية في ريف دمشق وعروسه (ابنة خاله) تعيش في اللاذقية بعد نزوح العائلة من إدلب، فإنه لا يرى سبباً يضطره إلى العزوف عن الزواج، ويرى أن «الشباب يلي بطلوا يتزوجوا بسبب الحرب هدول إيمانهم برب العالمين ناقص، ومثلهم الآباء يلي ما يزوجوا بناتهم لعساكر، أنا روحي على كفي بس مؤمن أنه الله رح يفرجها علينا، ومن هون لوقتها بشوف عروستي بالإجازات».