لعب «الجهاديون» دوراً مركزيّاً على امتداد الأزمة السوريّة المفتوحة، سواء في أطوار قوتهم أو ضعفهم. ويغدو التساؤل عن صورة المشهد السوري اليوم لو لم يفِد العنصر «الجهادي» إليه بقوّة ضرباً من العبث، بعدما تحوّل هذا العنصر، برضى من كل الأطراف، (لأسباب تتباين بين طرف وآخر) إلى جزء أساسي من الرّاهن البالغ التعقيد. يتوزّع «جهاديو» الحرب السوريّة اليوم على ثلاثة أقسام أساسيّة، أحدُها «مستقلّ» عن نظيريه وهو تنظيم «داعش»، أما الآخران فمترابطان وظيفيّاً ومنفصلان «هيكليّاً» وهما: «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«جبهة النصرة/ فتح الشّام» بما تمثّله من ذراع «قاعديّة»، رغم «فك الارتباط» الصّوري.
وأنتج «الفك» المزعوم نوعاً من الفرز «الإداري» في صفوف المكوّن «القاعدي» المنتشر في سوريا بكثافة، حيث احتفظ أبو محمد الجولاني بزعامة مؤثّرة لتنظيم يحاول أن يزاوج بين نهجي «القاعدة» و«طالبان» ويضم إليه كيانات أخرى تحت عباءة «هيئة تحرير الشام». فيما أنشأ الجناح «الخراساني» من «النصرة» قيادة «ظلّ» تستقطب كل الجماعات القاعديّة الأخرى مثل «جبهة أنصار الدين» و«كتيبة التوحيد والجهاد» و«كتيبة سيف الدين الشيشاني» وسواها. فيما تحضر جماعات «جهاديّة» أخرى تحاول أن تكون ذات صبغة مختلفة مثل «حركة أحرار الشام» و«جيش الإسلام» وسواهما. ويتمايز القسم الأخير عن سواه بكون المجموعات المحسوبة عليه حاضرة على طاولات التفاوض والهُدن وحكايات «الحل السياسي». لـ«الحزب الإسلامي التركستاني» أيضاً ما يميزه عن أقرانه بفعل الهيمنة التركيّة المُطلقة عليه، وقدرة أنقرة على توجيه بوصلته كيفما شاءت. بينما سلك كلّ من تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» مسالك جعلت كلّاً منهما أشبه بـ«شركة مساهمة» يتحاصص التأثير فيها لاعبون كثر. ومع دخول الحرب عامها السابع، يبدو جليّاً أن الدور الوظيفي لتنظيم «داعش» آخذٌ في الانحسار، بينما يبدو مستقبل «جبهة النصرة» واعداً بمسارات معقّدة إضافيّة. ولا يمكن في حال من الأحوال المضيّ في قراءة الحرب السوريّة بوصفها مجرّد أحداث متفرقة على جبهات متفرّقة وحالات من الكر والفر الاعتباطي، ولا سيّما ما يتعلّق بصعود القوى المختلفة وهبوطها (وعلى رأسها «الجهاديّة») وانعكاسات ذلك على سيناريوات مستقبل الحرب والبلاد بشكل عام. وتعود معظم الركائز التي يقوم عليها المشهد السوري الراهن إلى سنة 2015 التي لم تكن عاديّةً في مشهد الحرب، بل لعبت وظيفة «وسيطة» ومفصليّة. حفلت تلك السنة بأحداث ميدانيّة فارقة، شكّل بعضُها مقدّمات مباشرة لما يشهده العام الحالي من تحولات بارزة على مختلف الصعد، فيما ينتظر بعضها الآخر مزيداً من الوقت كي تتمظهر آثاره في صورٍ واضحة ومحدّدة. وعلى رأس الأحداث التي شهدها عام 2015 وبدأت تؤتي ثمارها اليوم (مع دخول الحرب عامها السابع) تبرز ثلاثةٌ، اثنان منها مرتبطان عضويّاً هما: انكسار تنظيم «داعش» في معركة عين العرب (كوباني)، وبدء رحلة صعود نجم «وحدات حماية الشعب» الكرديّة (ypg) التي تحوّلت إلى عمود أساسي لـ«قوّات سوريا الديموقراطيّة/ قسد». أما الحدث الثالث فهو سيطرة «جبهة النصرة» وحلفائها في «جيش الفتح» على محافظة إدلب، باستثناء بلدتَي كفريا والفوعة المحاصرتين (المساحة الكليّة لمحافظة إدلب 6100 كيلومتر مربع). وتكفي المقارنة بين مساحات سيطرة كلّ من تنظيم «داعش» و«قسد» منذ عام 2015 حتى اليوم لتبيان الأثر الهائل الذي تركته رحلة هبوط «داعش» على الخريطة السوريّة، في تكرار لما فعلته رحلة صعود التنظيم بين عامي 2013 و2015. في كانون الثاني 2015 نجحت (ypg) في حسم معركة عين العرب، وصارت مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرتها بعد المعركة حوالى 12000 كيلومتر مربّع. شكّلت المعركة بوّابة لتحوّل «الوحدات» إلى حليف أساسي على الأرض لقوّات «التحالف الدولي» التي قام تدخّلها في سوريا أساساً على أكتاف «تمدّد داعش». بحلول تشرين الأول 2015، كان المشهد على موعد مع إعلان تشكيل «قوّات سوريا الديموقراطيّة/ قسد»، وبسيطرة على ما يقارب 15000 كيلومتر مربّع. تدريجيّاً تنامى حجم «التعاون» بين «قسد» و«التحالف» واستقبلت الأراضي التي تسيطر عليها الأولى قواعد عسكريّة وقوّات خاصة و«متطوّعين»، واستمرّت معارك الطرفين ضدّ «داعش» إلى أن بلغت مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرة «قسد» في مطلع آذار الجاري قرابة 38500 كيلومتر مربّع. ويبدو لافتاً أنّ معظم الأراضي التي تمّ تحريرها من «داعش» في العراق قد عادت إلى قبضة الجيش العراقي (يُعتبر الحشد الشعبي جزءاً من القوات العراقيّة الرسميّة، حيث أقر مجلس النواب بأغلبية الأصوات قانون استحداثه، وصادق عليه رئيس جمهورية العراق استناداً إلى أحكام الدستور) وخلافاً لما هي عليه الحال في سوريا، حيث تسابق على تقاسم معظم تركة التنظيم كلّ من «قسد» والاحتلال التركي تحت اسم «درع الفرات»، كما دخلت القوات الأميركيّة أخيراً على خط «الورثة» بشكل مباشر. فيما استعاد الجيش السوري خلال الأشهر الأخيرة مساحات في ريف حلب الشرقي وريف حمص الشرقي من قبضة التنظيم المتطرف. ثمّة كثير من المتغيرات (تتجاوز الجغرافيا) لحقت بالمشهد السوري بفعل «صعود داعش وهبوطه»، يرتبط بعضُها بتركيبة السكّان وتعدادهم في المناطق التي احتلّها التنظيم ثم اندحر منها، علاوة على الدمار الهائل الذي أحدثته الغارات الجويّة، وفقدان جزء كبير من البنى التحتيّة وحرمان الدخل القومي للبلاد من واردات النفط والغاز، مع ما يعنيه ذلك من خسائر اقتصاديّة هائلة. وفي ظل ضبابيّة الصورة وغموض طبيعة التوافقات والصفقات الخفيّة بين اللاعبين الخارجيين، تدخل البلاد نفقاً طويلاً، قد يصحّ اعتبار خروجها منه معجزةً (إن خرجت موحّدة). على المقلب الآخر، تبدو «إمارة النصرة» غير المعلنة أشبه بقنبلة موقوتة يُنذر انفجارها بمزيد من التشظّي، ولا سيّما في ظل المؤشرات المتزايدة على أن «الحرب على الإرهاب» لن تلبث أن تتفرّغ لها متى اقتضت المصلحة ذلك. ولا يغيب عن البال أنّ دخول محافظة إدلب تحت القبضة «القاعديّة» متمثلة بـ«جيش الفتح» شكّل ركناً أساسيّاً من أركان التدخل الروسي المباشر في الحرب، ما منح موسكو تالياً قدرة أكبر على التأثير في مستقبل سوريا والمنطقة برمّتها. أمّا الثمن الأفدح، فقد دفعه (ويدفعه) السوريون دماءً وتشريداً وقهراً مستمرّاً، سواء في ذلك ما ذاقوه من ويلات «حكم الشريعة» أو نيران «محاربة الإرهاب» أو ما ينذر به قادمٌ لا يزال غامضاً.