يوم مدّت أنقرة ذراعها العسكرية في سوريا، غازية ريف حلب الشمالي انطلاقاً من جرابلس الحدودية نهاية شهر آب الماضي، كانت قوات الجيش السوري وحلفاؤها تجهد لإغلاق ثغرة الراموسة التي كسرت الحصار عن الأحياء الشرقية لحلب.في سباق لكسب الوقت والميدان، توغّلت قوات «درع الفرات» سريعاً نحو أعتاب مدينة الباب منتصف تشرين الثاني الماضي. عُقد عسكرية وسياسية حالت دون البدء بالسيطرة الفعلية على العقدة الجغرافية في ريف حلب الشرقي.

كانت عين إردوغان على معركة حلب، وأخرى تراقب تحضيرات قواته لمتابعة غزوها شرقاً. سقط مشروعه في حلب المدينة، إثر حسم الجيش السوري للمعركة فيها، ليأتي اتفاق إخراج آخر مسلحي الأحياء الشرقية، ثم الهدنة المستمرة، وصولاً إلى مؤتمر الأستانة.
وضعت موسكو، حينها، كرسياً إلى جانب ممثليها في «الحل الدولي»، لتحلّ أنقرة ضيفاً أساسياً في غياب واشنطن التي تنتظر تسلّم زعيمها الجديد.
مرّ «الأستانة» بمنصّته الثلاثية (روسيا ــ تركيا ــ إيران)، وفي انتظار «جنيف» جديد، كانت أنقرة وموسكو تواصلان بناء التفاهمات السياسية والميدانية.
في الباب، أرادت تركيا تثبيت أمر واقع بغزوها المدينة. هي عملياً تقاتل «داعش» الإرهابي باعتراف الجميع، وتصرّح يومياً بعدم رغبتها في الاشتباك مع الجيش السوري، وكل حركة «بالتنسيق مع الجانب الروسي».
وبيان وزارة الدفاع الروسية، أول من أمس، جاء في هذا السياق: «خلال الهجوم في شمال شرق حلب، وبدعم من القوات الجوية، حررت القوات السورية بلدة تادف، قرب الباب، ووصلت إلى خط التماس المنسّق مع الجانب التركي».
ترسيم الحدود واضح وصريح في البيان الصادر من موسكو، لكن التغيّرات سريعة في الشمال السوري. وعود الأمس قد تمحوها مؤشرات دولية وميدانية مستجدة. فاليوم، يبحث إردوغان عن إعادة الحرارة مع الإدارة الأميركية. «حصان حلف الأطلسي» في المنطقة يعوّل على عودته إلى الحلبة من بوابة واشنطن بتكليف وتنسيق مع إدارة دونالد ترامب. هو اتفق مع نظيره الأميركي على «التحرك بشكل مشترك في الباب والرقة». وعاد أمس ليتكلم عن «إقامة مناطق حظر للطيران، إضافة إلى إنشاء مناطق خالية من المنظمات الإرهابية». «العملية ستستمر، والسيطرة على الباب ليست الهدف النهائي بالنسبة إلى تركيا، إنما الهدف الرئيسي يتمثل في تطهير الشمال السوري من عناصر داعش، والباب ليست المعقل الأساسي لهم، بل محافظة الرقة»، أضاف إردوغان.

لدى إردوغان مشروع
قابل للترميم كلّما سنحت
الفرصة

كل ما جرى نقله للجانب الروسي حول تفاهمات وحدود جغرافية لتغلغله في ريف حلب، ورسائل التطمين إلى دمشق ظهرت تركياً في تصريحات الوقت الضائع: انتظار تبلور سياسة البيت الأبيض في سوريا.
والعلاقة مع واشنطن تبدو بالنسبة إلى أنقرة اليوم أكثر من ملحّة. الكلام عن التنسيق والتعاون يحضر يومياً في تصريحات المسؤولين الأتراك. كان إردوغان يهبّ ضد أي قرار أو تصريحات تضرّ بالمسلمين، مثلاً. لكن فاته قرار حظر السفر الأميركي الأخير تجاه مسلمي 7 دول.
«الآن لدينا كل آفاق لخلق بداية جديدة (مع الولايات المتحدة)»، قال ألنار شفيق، مستشار الرئيس التركي خلال مقابلة في القصر الرئاسي.
اجتماع الأسبوع الماضي بين إردوغان والرئيس الجديد لوكالة الاستخبارات المركزية C.I.A مايك بوميو، فُسِّر في تركيا بأنه «مؤشر جيّد»، حسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. كذلك المكالمة الهاتفية بين رئيس الوزراء بن علي يلدريم ونائب الرئيس الأميركي مايك بنس قد تبشر بـ«يوم جديد» في العلاقات، حسب المسؤول التركي.

في المقلب الآخر

على الجانب السوري، كانت قناة موسكو مع أنقرة هي الجانب «المُسكِّن» الوحيد لأطماع تركيا. الرئيس بشار الأسد لم يفوّت مقابلة صحافية ليهاجم إردوغان وغزو قواته لبلاده. في مقابلته مع قناة «تي بي اس» اليابانية، رأى أنه «لا نستطيع أن نتوقع حرباً صادقة ضد (داعش) من قبل تركيا أو الولايات المتحدة»، مضيفاً إنه «بالنسبة إلى تركيا، إردوغان متعاطف داخلياً وغريزياً ومرتبط وملتزم بـ(داعش) والقاعدة، ولا يستطيع أن يبتعد عنهم». الارتياب من المشروع التركي لم تطفئه «القناة» الروسية.
يروي مصدر دبلوماسي سوري أنّ لدى إردوغان مشروعاً، «وهذا المشروع لم يمت، بل انكسر في أماكن عديدة، وهو قابل للترميم كلّما سنحت الفرصة عبر التغيّرات الدولية والألاعيب الميدانية». لذلك، تعمل دمشق سريعاً لقضم أكبر مساحة ممكنة على محور شرق مطار كويرس في ريف حلب الشرقي.
فالجيش السوري، حسب مصادر ميدانية، يريد الآن «تثبيت حدوده مع حدود تركيا، والتوسع شرقاً وصولاً إلى سد الفرات». وفي هذا الإطار، سيطر أمس على قريتَي المنصورة وخربة الجحاش، ليعمل على التمدد نحو مطار الجراح على الضفة الغربية لنهر الفرات، محاولاً قطع طريق الرقة أمام «درع الفرات» لتكون منبج هي «الحلّ الوحيد» للغزو الإردوغاني، وهذا ما يعني مواجهة مع «الوحدات» الكردية أو انتظار تفاهم ثلاثي صعب مع واشنطن لإطلاق معركة الرقة.
إن لم يحدث تحوّل كبير، فإن تأكيد إردوغان بأنّ سيطرة قوات «درع الفرات» على مدينة الباب «باتت وشيكة» أصبح مسألة وقت. والقوات الغازية عبّرت أيضاً عن استحالة وصول الجيش السوري إلى تماس مباشر مع مدينة الباب، بإقفالها الطريق بين تادف (حيث ترابط القوات السورية على تخومها) والمدينة.
«سلطان» تركيا، قبل انطلاقه في زيارة للبحرين في جولة خليجية، أكد أيضاً أنّ هدف عمليات قواته «تشكيل منطقة آمنة خالية من الإرهاب تبلغ مساحتها بين أربعة وخمسة كيلومترات مربعة، ما سيوقف تدفق النازحين».
مشاريع إردوغان عادت بحلّة جديدة، وقد يتمظهر ذلك بتأجيل أو فشل جديد في مؤتمر «جنيف» المرتقب. الميدان ــ كما جرت العادة ــ سيحكم أولاً، ومفاعيله ستحكم التفاهمات السياسية من جديد.