دمشق | يبدو وجه العاصمة السورية شاحباً مع بداية العام الجديد. وتشي وجوه أهلها بما يعتمل داخل بيوتها من غليان وتذمر ومعاناة متضاعفة. عاماً بعد آخر، يصل الدمشقيون إلى خلاصة بأن ما خسروه أكبر بكثير مما يمكن أن يربحوه بانتهاء الحرب والجلوس إلى طاولة مفاوضات ترتب أرباح الآخرين على أرضهم المدمرة.
وأصبح حلم الأحلام بالنسبة إليهم هو الحصول على عبوة مياه أو قارورة غاز، خلال «أيام ملعونة» مقبلة، قد يضطر فيها المواطن إلى أن يقتل للحصول على أساسيات للبقاء، وليصبح الهواء هو الشيء الوحيد الذي لا يدفع السوريون المال للحصول عليه، بعدما صارت مياه الفيجة حلماً، في انتظار دخول الجيش إلى المنطقة وإدخال فرق الصيانة لإعادة النبع الحيوي إلى العمل. وبحسب المسؤولين الحكوميين، فإن «أياماً طويلةً» ستلزم فرق الصيانة لإصلاح أنابيب الضخ من النبع، ابتداءً من لحظة دخول الجيش إلى المنطقة.
«إنجاز هام» حققه أبو محمد، ابن حي الميدان الدمشقي، بتمكنه ــ أخيراً ــ من الحصول على عبوة الغاز المعدنية. مظهره يدل على ارتباكه بفعل هذا الفرح الآني البسيط، إذ إنه لا يجيد التعامل مع العبوة، فتارة يحملها وطوراً يدحرجها بقدميه اللتين ما عادتا تقويان على الوقوف ضمن الطوابير الكثيرة. تنتظره سيارة أجرة، أقلّته من أمام بيته مسرعاً من غير أن يبدل ملابسه، عند اتصال موزع الغاز به، بعد سلسلة رجاءات و«واسطات».

اكتشفنا أن وجود المياه في الحمام أكثر أهمية من المطبخ

يقول الرجل الأربعيني: «4500 ليرة، طلب الموزع سعر تعبئة (جرة الغاز)، ولو طلب 6000 لعطيته». لم تنته مسيرة الآلام بعد، فأمام الرجل نضال يومي جديد للفوز بصندوق مياه معدنية، وهو ينتظر اتصالاً من أحد أصحاب المتاجر، الذين ترك لديهم أخباراً ونداءات. ويوضح أبو محمد: «كل عام إلى الأسوأ، بالنسبة إلى أوضاعنا المعيشية. ماذا سنفعل؟ لكل شيء نهاية، ومأساتنا لها نهاية. أصبح أهم أحلامنا اليوم أن نحصل على فرصة للاستحمام».
البيوت التي ما عادت تصلها المياه في قلب العاصمة السورية، تخلصت نساؤها من أعباء الأعمال المنزلية، لا طبخ ولا تنظيف ولا جلي، فهُناك ما هو أكثر أهمية. تقول خولة (45 عاماً): «رتبنا أولوياتنا واكتشفنا أن وجود المياه في الحمام أكثر أهمية من المطبخ، وعليه، توقفنا عن الطبخ وأصبحنا نشتري طعاماً جاهزاً ونأكل باستخدام أدوات بلاستيكية وورقية، ونواجه صعوبات في شرائها أيضاً، بسبب زيادة الطلب عليها وازدياد سعرها ككل شيء». وتضيف: «ما كان حقاً طبيعياً، قبل أيام، أضحى رفاهية زائدة تتطلب دفع المزيد من المال. وطالما لدى الشعب القليل منه فيجب أن يدفعه. لا أحلام أمامنا لجمع المال، فتجار الأزمة لم يتركوا شيئاً دون أن يستغلوه».
المرأة التي نجح زوجها في تعبئة خزان المنزل، عبر صهريج كلّفه 10 آلاف ليرة شعرت بالسرور، لكن على الرغم من ذلك، «لا طبخ في مطابخ هذه المدينة»، وفق ما تعلّق ابنتها ضاحكة. وتتابع: «نحن نقنن في استخدام المياه داخل بيوتنا، ما يرتب علينا نظافة أقل، فإن مطاعم الوجبات السريعة التي تعاني مثلنا من قلة المياه ستكون أكثر قذارة بالتأكيد».
يقود أبو وليد سيارة الأجرة التي يملكها في شوارع دمشق، ويشكو بدوره قلة المياه. يقول الرجل الستيني: «انكسر ضهري... ابني الأكبر جندي في الجيش والآخر يعمل في محل نعيش منه، ولا يوجد غيري لينتظر المياه ويعبئها في عبوات بلاستيكية لحملها إلى شقته في الطابق الثالث». ضُخّت المياه قبل أيام لمدة ساعة واحدة، بحسب أبي وليد، وكان ضخها ضعيفاً بحيث لم تصعد إلى الخزانات على أسطح المباني، وهرع الناس إلى تعبئة الأواني الفارغة لديهم من صنابير المياه في الطوابق الأرضية، ما رتب خلافات بين الجيران على الدور المفروض لتعبئة ما لديهم.
أما أسعار تعبئة الخزان الواحد من الصهاريج، فقد تراوح بين 10 آلاف و25 ألف ليرة، بحسب قدرة سائق الصهريج على الاحتيال واستغلال حاجة الناس إلى قطرة مياه. في حين وصل الحال، إلى تأجير بعض الفنادق غرفة لديهم بغرض الاستحمام، بأسعار بحدود 2500 ليرة لغرفة في أحد فنادق الخمس نجوم. أما حمام السوق الذي كان يوماً من طقوس دمشق، فقد اكتظ باللاجئين إليه. أمام أحد حمّامات السوق الدمشقية، تقول أم خالد (50 عاماً) تعليقاً على مشهد الازدحام المهول: «آخر ما توقعناه أن نخسر مياه الفيجة، وأن نحارب للحصول على دور للاستحمام». وعلّقت بلهجة عامية شامية، يفهمها بأسى أهل العاصمة: «حوينتك يا بلد».