لم تترك الحرب في طورها الحالي مجالاً أمام معظم معادي الدولة السورية، يتيح لهم الاعتماد الكامل على المجموعات المسلحة في الساحة الداخلية، والاكتفاء بلعب دور الناظم والمموّل والموجه. تركيا دخلت بدباباتها وجنودها لتغزو جزءاً من المنطقة الحدودية. واشنطن بطائراتها الحربية وجنودها أضحت تعمل في منطقة واسعة في الشمال السوري، وعلى طول الحدود العراقية ـ السورية. جنوباً، كانت إسرائيل تتدثّر بثياب المسلحين. يقول قائد معنيّ بالجبهة الجنوبية إنّه في المعركة الأخيرة التي أطلقها المسلحون في القنيطرة ودرعا «ظهرت النجمة الإسرائيلية علناً من تحت جلباب «جبهة النصرة»».يعيدنا القيادي إلى ظروف تهيئة تل أبيب لمعركتي «قادسية الجنوب» (في القنيطرة) و«مجاهدون حتى النصر» (مثلث ريف دمشق ــ القنيطرة ــ درعا)، فيشير إلى طلبها من «جبهة النصرة» («جبهة فتح الشام») وغرفة عمليات «الموك» (ومنها لفصائل «الجيش الحر») بأن يتوقف العمل ضد «جيش خالد بن الوليد» المتهم بمبايعة «داعش» في حوض اليرموك (يسيطر على 8 قرى و4 مزارع) مُقابل بدء الهجوم على مواقع الجيش السوري. إذ كانت «الموك» قد ارتأت سابقاً بعد فشل «عاصفة الجنوب» (درعا) بنسخها الخمس، فتح معارك لاستئصال «داعش». وكان الأردن من أهم العاملين في هذا المنحى، خوفاً على أمنه، وذلك مقابل تقديم «الغرفة» دعماً جديداً للفصائل بعد أشهر من قطعه.
سقط 4630 مسلحاً منذ بداية عام 2014 في الجنوب

نجحت إسرائيل في مسعاها، وجاء مشروعها الذي عرضت على الفصائل و«الموك» تحقيقه: إقامة ممر آمن من بئر عجم إلى جباتا الخشب، والسيطرة على بلدة حَضَر وجزء من مدينة البعث، ثم العمل للسيطرة على خان أرنبة.
وضمنت إسرائيل مقابل ذلك، السماح لجميع الفصائل بالتحرك على طول السلك الشائك الفاصل بين الجولان المحتل والأراضي المحررة، وبالعناية الطبية، والدعم المباشر على طول الخط العازل. كذلك، فتحت معابر الرفيد والشحار (جباتا) والقنيطرة الرسمية أمام حركة المسلحين. وعلمت «الأخبار» أنّ كل جريح يدخل الأراضي المحتلة يوقّع على وثيقة تؤكد أنه يدخل إسرائيل التي «يَعترف» بها.
بعد كسب موافقة «الموك» و«النصرة»، بدأ شق طرقات إضافية لحركة المشاة والآليات، ورُفعت السواتر وحُشد 1500 مسلح من جميع الفصائل، وعلى رأسها «فتح الشام ـ النصرة» و«أحرار الشام» و«شباب السنة» وفصائل «الحر».
قُسّم العمل على ثلاثة محاور: جباتا ــ حضر، ومحور «السرية الرابعة»، ومحور «مثلث الموت» (درعا ــ القنيطرة ــ ريف دمشق)... مع تقديم المدافع والذخيرة والتوجيه المعلوماتي من إحداثيات وطرق تحرّك الجيش السوري.
بعد توزيع المسلحين على المحاور المذكورة، انطلقت العمليات يوم السبت في العاشر من أيلول، ليبدأ الهجوم على التلول الحمرية (جنوبي حَضَر) و«السرية الرابعة». دامت الاشتباكات من 10:30 صباحاً إلى 8 مساءً، ليفشل المسلحون في السيطرة على «الرابعة» (سقوطها يعني فتح الطريق من الحدود وحتى بيت جن في جبل الشيخ)، وليدخل عدد كبير من جرحى المسلحين إلى الأراضي المحتلة.

معركة النصف ساعة

في اليوم التالي، بدأت المعركة في «مثلث الموت». يُخبرنا القائد الميداني باعتماد المسلحين في هجومهم على أسلوب جديد: 4 عربات «بي ام بي» تحمل كل واحدة منها 15 مسلحاً انطلقت بسرعة هائلة من بلدة كفرناسج (ريف درعا الشمالي الغربي) نحو تل قرين في «المثلث» بغطاء من «راجمات الـ 40 (صاروخاً)». وصلت العربة الأولى إلى الساتر الدفاعي ونزل الجنود ليقعوا في شَرَك من العبوات الناسفة، ثم دُمّرت الثانية والثالثة بالصواريخ الموجهة، قبل أن تفرّ العربة الرابعة. كانت معركة نصف ساعة، يقول القائد لـ«الأخبار». سحب الجيش عدداً من جثث المسلحين وبقي عدد منها أرضاً.
يوم الاثنين، جُمع عديد إضافي من مسلحي بلدات نوى وجابية وطفس، لتتكرّر المحاولة ضد «السرية الرابعة». معركة من الرابعة حتى السابعة مساءً انتهت بفشل ذريع آخر، وكان لـ«تشريكات» العبوات دور كبير في صدّ الهجوم. في هذا اليوم أُحصي أسماء 33 قتيلاً وعشرات الجرحى.

العدو «يقصف» نفسه

خلال المعركة، كان الجيش الإسرائيلي يوزّع بيانات «انزلاق القذائف» نحو حدوده ليقصف مرابض مدفعية أساسية للجيش في مناطق مختلفة (جبا ــ تل الشعار ــ جبل الشيخ ــ تلول فاطمة...)، مستخدماً طائرات الـ «اف 16» والطائرات المسيّرة والصورايخ. عملياً، لم تنزلق سوى قذيفتين أطلقهما الجيش السوري نحو الأراضي المحتلة، فيما كانت تشكّل كل قذيفة أخرى تقع «بسبب» المسلحين ذريعة للعدو لاستهداف مرابض الجيش.
في النتيجة، دُمر 22 مدفعاً للجيش السوري خلال حفلة الجنون الإسرائيلية «وهم يرون أمام أعينهم فشل المسلحين على كافة الجبهات»، حسب تعبير القائد الميداني. ثلاثة أيام كانت كفيلة بإجهاض معركة إسرائيلية بامتياز، كانت محصلتها 108 قتيلى للمسلحين بينهم 18 قائداً أساسياً و408 جرحى، بالإضافة إلى 25 قتيلاً خلال رصد الجيش واستنزافه لمناطق تحشّد المجموعات قبيل المعركة وخلالها. ولكوْن المعركة «في وجه الإسرائيلي» ذات طابع خاص يقول القائد، استُخدم في اليوم الأخير صواريخ «التوشكا» للمرة الأولى على مواقع المسلحين في طرنجة وأوفانيا على بعد كيلومترات قليلة عن حدود الجولان المحتل.
حلّ يوم الثلاثاء، وعادت المجموعات المسلحة إلى المربع الأول: طفت مشاكلها السابقة وثاراتها (لكون معظمها ذات طابع عشائري)، وظهر التخوين المتبادل.

خسائر كبيرة

ظهر في اليوم الأخير من المعركة إشراك «النصرة/ فتح الشام» و«حركة أحرار الشام» 30 مقاتلاً لا تتعدى أعمارهم 15 سنة. هذه الثغرة في التجنيد التي تكبر كل سنة توضحها أرقام قتلى المسلحين التي حصلت عليها «الأخبار»; 4180 قتيلاً من كانون الثاني 2014 إلى نيسان 2015، و450 إضافيين من شهر أيار إلى المعركة الأخيرة في الشهر الجاري، وذلك مقابل تحسّن في وضع القرى في درعا، لتقلّ نسبة النزوح والهجرة من 80% إلى 40%، مع آلاف الدونمات المزروعة المستحدثة التي يعتمد عليها الأهالي في معيشتهم في الأراضي التي تقع تحت سيطرة المسلحين أو الدولة السورية، التي تسهّل بدورها تسويق الإنتاج في أسواق دمشق.




وضعية الجيش ونظرة العدو

القيادي المتابع لتفاصيل الجبهة الجنوبية، يرى أنّ المسلحين ومشغّليهم بحاجة إلى وقت للتعويض قبل محاولة المبادرة مجدداً. ويضيف إلى جانب الحالة النفسية المهزومة والخسائر البشرية الكبيرة، انكشاف خططهم أمام الجيش. ويتكلّم في هذا السياق عن منظومة «إنذار مبكر» (استعلام) متقدمة عند الوحدات السورية وحلفائها، بالإضافة إلى «خطوط م/د» (مضاد دروع)، والقدرة على استنزاف العدو خلال تحشّده. وسقط خلال الاشتباكات الأخيرة 14 شهيداً للجيش، بينهم 3 في تل قرين («مثلث الموت»).
ويلفت القيادي أيضاً إلى «نقطة مهمة» تُظهر قدرات الجيش المتقدمة في الجنوب السوري، حيث بادر خلال المعركة إلى الهجوم نحو كتيبة الدفاع الجوي (المعروفة بـ«الكتيبة المهجورة») الواقعة على بعد كيلومترين من داعل وابطع في ريف درعا الشمالي، ونجح في السيطرة عليها رغم 3 محاولات يائسة لاسترجاعها.
ويحدّد القيادي وضعية الجيش في الساحة الجنوبية بأنها مرّت في ثلاث مراحل:
عامي 2013 – 2014، حالة الدفاع السلبي؛
2015، الدفاع الإيجابي والتقاط المبادرة (معركة «مثلث الموت»، شباط 2015)؛
2016، القدرة الكاملة على المبادرة (الشيخ مسكين – عتمان ــ الكتيبة المهجورة).
ويُرجع هذا التطوّر إلى عوامل عدة، منها أنّ القوات النظامية هي أساس التشكيل المقاتل الموجود، ولديها تجهيزات مختلفة وعقلية إدارة واحدة تخضع لإمرة قائد واحد، إضافة إلى استراتيجيات وُضعت منذ ما قبل الحرب (المنطقة الجنوبية لديها وضع مختلف لارتباطها بالجبهة مع العدو الإسرائيلي) ظهرت وتطوّرت في السنين الأخيرة. هذه العوامل أفضت إلى استعداد عملاني كبير لدى وحدات الجيش يستطيع عبرها الاستفادة من خبرات الحلفاء، ليتطور العمل إلى مستوى إرسال مجموعات صغيرة لكيلومترات عدة لزرع العبوات أو نصب الكمائن خلف خطوط العدو.
كذلك، يشير القيادي إلى تبدّل جذري في مقاربة العدوّ لملف الجنوب السوري، وأنّ العلاقات الأمنية التي تربطها بالمسلحين تطورت هي الأخرى. وأظهرت الفترة الماضية، أن ضباط استخبارات العدو نجحوا، ليس في إقناع المسلحين بأولوية خطر النظام على «داعش»، بل على تنظيم العلاقة مع إسرائيل بطريقة مختلفة. واشتُرط توقيع المجموعات المسلحة اعترافاً خطياً بدولة إسرائيل، كشرط لتلقي المساعدات منها، وهو الاعتراف الذي وقّع عليه حتى الجرحى الذين نقلوا إلى مستشفيات فلسطين المحتلة. وقد استغل العدو في هذه النقطة إغلاق الأردن البوابات أمام جرحى المسلحين، بسب إصرار عمان على وجوب قتال «داعش» أولاً.
الأمر الآخر، تمثّل عند انطلاقة المعركة في توفير العدو الدعم القيادي المفتوح، والمتمثل في غرفة عمليات تزود المسلحين بإحداثيات تتولى الاستخبارات الإسرائيلية جمعها، بالإضافة إلى توفير الدعم اللوجستي والسماح للمسلحين باستخدام أسلحة ثقيلة من مدفعية وخلافها، وحتى نشرها في المنطقة التي تفرض الاتفاقات الدولية على سوريا منع نشرها بعد وقف النار إثر حرب تشرين عام 1973.




العين على خان الشيح

بعد سيطرة الجيش السوري على مدينة داريا في الغوطة الغربية، فقدت خان الشيح جزءاً من دورها المحوري في مشروع وصل الجنوب السوري بدمشق. البلدة التي «تمسك» عدة قرى (زاكية ــ الكسوة ــ الطيبة)، بحسب وصف القائد الميداني، تشكّل بؤرة مزعجة للجيش السوري. ومسلحوها الألف (غالبيتهم تابعون لـ«جبهة النصرة»، ثم «شباب السنة») لديهم تواصل عبر طريق ترابية نحو بيت جن، و«وصلة رفيعة» نحو كناكر جنوباً. ويعمل الجيش حالياً على استنزاف المسلحين في البلدة، ليقضي بعدها على نحو نهائي على مشروع وصل الجنوب بالشام (داريا ــ خان الشيح ــ القنيطرة).