تطوي مدينة داريا اليوم فصل «الثورة» الذي تعيشه منذ خمس سنوات. المدينة التي زار «القسم المحرر» منها الرئيس بشار الأسد عام 2013 ظلّت تجابه بقوة بفضل خطوط إمدادها وربطها بمعادلة الجنوب السوري. فمسلحو المدينة آثروا البقاء تحت الحصار والحفاظ على ممر وحيد نحو معضمية الشام المجاورة، لأنهم يعرفون جيداً رمزية المدينة، الخاصرة الجنوبية للعاصمة دمشق والمتاخمة لمطار المزّة العسكري، ما أبقى في أيديهم أوراقاً سياسية وعسكرية أمام الجيش السوري.لكن في السنة الأخيرة، اختلف الوضع تماماً. لم تعد المكابرة مجدية. خرج معظم المدنيين ولم يبقَ سوى أهالي المسلحين، ثمُ فصلت المدينة عن معضمية الشام ليبدأ الجيش السوري عملية تقطيع أوصال المدينة ليضع المجموعات المسلحة أمام خيار الاستسلام من دون شروط.
في اليومين الأخيرين، نضجت ظروف التسوية بعد استسلام عدد من المجموعات المحاصرة، ليتمّ سريعاً التواصل مع معظم التشكيلات الأخرى وإرساء اتفاق يقضي بخروج المدنيين، وتسوية أوضاع من أراد من المسلحين، على أن يخرج من يرفض منهم «المصالحة» نحو مدينة إدلب. الجارة الجنوبية للعاصمة، التي لطالما كانت نموذجاً يفخر به المعارضون، ما جعل منها «أيقونة الثورة»، انضوت تحت «اتفاق سلميّ» جاء مشابهاً لاتفاقيات أبرمت في مناطق أخرى على الجغرافيا السورية مثل أحياء حمص القديمة وحيّ الوعر، بعد حصار مطبق فرضه الجيش على المدينة منذ مطلع العام الحالي. الاتفاق الذي خرج إلى الضوء بعد تأخير طويل سببه تحفظات «لواء شهداء كفرسوسة»، سيبدأ تنفيذه اليوم، إذ من المفترض أن يسلّم المسلحون أسلحتهم المتوسطة والثقيلة، ويخرج قرابة 4000 مدني نحو قدسيا والكسوة في ريف دمشق وانتقال 700 مسلّح إلى مدينة إدلب. وبرغم صعوبة تصور أخبار الأيام والشهور اللاحقة من دون أخبار عن جبهات المدينة، فإن توقف الأعمال القتالية كان قد استبق إعلان الاتفاق وبدأ منذ ليل أول من أمس، في ظل المفاوضات التي دارت حول بنود الاتفاقية وآلية تنفيذها، بالتوازي مع استسلام عدد من المسلحين بعد حصارهم في مساحة تزيد على كيلومتر واحد، إثر تقدم عناصر الجيش في محيط سكة الحديد، وفصل شرق المدينة عن غربها.
سيحدد الاتفاق مصير آلاف الأشخاص داخل المدينة، بينهم 2000 مسلح (أ ف ب)

الاتفاق لن ينعكس على المدينة وجارتها دمشق وحسب، بل على كامل مناطق الغوطة الغربية وامتدادها جنوباً نحو ريف درعا والقنيطرة، اللذين شهدا خلال سنوات الحرب معارك عديدة تحت شعار «نصرة داريا». وبالتوازي مع عمليات الجيش في الغوطة الشرقية واقترابه المتواصل من مدينة دوما، فإن هدوء جبهات داريا بعد عجز الفصائل عن إحداث اختراق لدعم محاور الغوطة الغربية، سينعكس أيضاً على جبهة جوبر، التي ستصبح وحيدة «مشتعلة» في محيط العاصمة.
وبرغم تأكيد المصادر الميدانية اقتراب تطبيق الاتفاق، فقد غابت التصريحات الرسمية التي توضح تفاصيل الاتفاق، وذهبت مصادر رسمية عسكرية إلى ضرورة التدقيق في ما ينشر في وسائل الإعلام عن بنود الاتفاق، نافيةً أن «يكون ما يشاع عن إقرار بنود التسوية النهائية في المدينة صحيحاً». المصادر الميدانية في المدينة، أوضحت أن بنود الاتفاق تنصّ على تسليم المسلحين أنفسهم وتسوية أوضاعهم وفق قوانين الدولة السورية، ليبقى الاحتمال أمامهم «في حال أظهروا تعاوناً مع الجهات الرسمية» بأن يصبحوا ضمن «مجموعات الدفاع الشعبي» في المدينة. أما المسلّحون الرافضون للبقاء في المدينة فيمكن ترحيلهم. ويتوقّع أن يتضمن الاتفاق المرتقب إعلانه، موافقة «لواء شهداء كفرسوسة» على بنود التسوية باعتباره الفصيل الأكثر تحفظاً في الموافقة على شروط الجيش، بعد تسليم مئات المسلحين، مع عدد من الآليات، أنفسهم خلال اليومين الفائتين. يأتي ذلك عقب التوترات التي خلّفتها معركة «هي لله» التي أعلنتها فصائل الجنوب الشهر الفائت، «نصرةً لداريا المحاصرة»، والتي فشلت في تحقيق أهدافها، وسببت توتّر العلاقة بين «لواء شهداء الإسلام» و«لواء شهداء كفرسوسة» وغيرهما من الفصائل المقاتلة في داريا، مع بقية فصائل المنطقة الجنوبية المتهمة بالتخاذل تحت رعاية غرفة «الموك» والمخابرات الأردنية.
الهدوء الذي يلف المنطقة المنكوبة للمرة الأولى بعد سنوات الحرب المريرة بدا مقدمةً لما سيثمر عنه الحسم النهائي لتنفيذ الاتفاق في الساعات القادمة، والتي ستحدّد مصير جميع من فيها من مسلحين ومدنيين. وبحسب المصادر العسكرية، فإن «الوضع الميداني كان في مصلحة الجيش خلال الفترة الأخيرة، بعد عمليات القضم التدريجي التي قامت بها وحدات من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وصولاً إلى السيطرة على 30 كتلة أبنية هذا الشهر فقط».
وفي حال استكمال عملية خروج المسلحين، اليوم، وبدء إجراء مسح وتمشيط لباقي أحياء المدينة، ستطوى بذلك مرحلة صراع طويلة من تاريخ العاصمة، ليفتح باب الاتفاقات السلمية أمام بلدات ومدن أخرى في غوطة دمشق وسائر ريفها. أما بلدة المعضمية المجاورة، والتي شكّلت شريان الحياة الرئيسي لها وخط إمدادها الوحيد لسنوات، قبل أن تلتحق بركب التسويات السلمية أيضاً العام الفائت، فتحدثت أنباء عن احتمال التوصل إلى اتفاق مماثل، يسمح بخروج من أراد من المسلحين، تمهيداً لنهاية عهد السلاح في طوق دمشق الجنوبي.