بالعودة إلى مجريات عامٍ سبقها، يمكن القول إنّ «مجزرة الغوطة» جاءت بمثابة تتويجٍ لمرحلة. كانت وسائل الإعلام الغربيّة قد بدأت التخويف من «عزم النظام استخدام الأسلحة الكيماويّة ضدّ شعبه» في النصف الثاني من عام 2012. سُجّلت تصريحات عدّة لمسؤولين بارزين في هذا السياق، وعلى رأسها التهديد الشهير الذي أطلقه الرئيس الأميركي باراك أوباما بتاريخ 20 آب 2012 «أي نقل أو استخدام للأسلحة الكيميائية يشكل خطاً أحمر، وقد يؤدي إلى تدخل عسكري مباشر». تصاعد الضخّ الإعلامي في هذا الشأن ليصل ذروته أواخر ذلك العام، مع تحذيرات إعلاميّة متتالية من «استخدامٍ وشيك»، وكانت التحذيرات «مستندة إلى تقارير استخباراتيّة» وفقاً لما أكّدته كثير من الوسائل مثل مجلة «وايرد» وصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركيتين، ومجلة «دير شبيغل» الألمانيّة، وسواها.
قبل المجزرة

في تشرين الأول 2012 كان عدد من «الناشطين والحقوقيين الثوريين» قد استكملوا بصمت كل التحضيرات اللازمة لإطلاق «مكتب توثيق الملف الكيميائي في سوريا» (قبل قرابة خمسة أشهر من تسجيل أوّل استخدام مؤكّد للأسلحة الكيميائية، في خان العسل في ريف حلب). «المكتب» الذي اتّخذ من تركيا قاعدة «لوجستية» لنشاطه يؤكّد أنّه «مكتب معترف به رسمياً في الأوساط الدولية». لاحقاً، وبعد تسجيل اعتداءات كيماويّة في مناطق مختلفة من سوريا وتشكيل لجان تحقيق دوليّة، كان «المكتب» جاهزاً ليتمّ اعتماده بشكل لافت للنظر من قبل «منظمة حظر الأسلحة الكيميائيّة» بصفة «مُنسّق عام لدخول المناطق المستهدفة».
في تشرين الأول 2012، كان عدد من «الناشطين» قد استكملوا التحضيرات لإطلاق «مكتب توثيق الملف الكيميائي»

خان العسل

في 19 آذار 2013 قالت دمشق إنّ «إرهابيين أطلقوا صاروخاً يحتوي على مواد كيميائيّة ما أسفر عن مقتل 16 شخصاً في بلدة خان العسل بريف حلب» (كانت تحت سيطرة الجيش). فيما قال «المرصد السوري لحقوق الانسان» إنّ «عدد القتلى بلغ 26 من بينهم 16 جندياً». سارع المتحدث باسم «المجلس العسكري في حلب» قاسم سعد الدين إلى اتهام الجيش السوري بتنفيذ الاعتداء، وتبنّت جهات معارضة عدّة رواية مفادُها أنّ «النظام استهدف بالأسلحة الكيميائيّة منطقة تحت سيطرته عن طريق الخطأ» (كانت قناة «الجزيرة» القطريّة أوّل من روّج لتلك الرواية). الولايات المتّحدة أعلنت حينها أنّها «لا تمتلك أدلّة على استخدام أسلحة كيميائيّة». فيما أكّدت منظمة «حظر انتشار الأسلحة الكيميائية» عدم وجود «معلومات من جهة مستقلة عن أي استخدام للأسلحة الكيميائية». وحذت حذوها منظمة الصحة العالميّة التي قالت إنها «لا تستطيع التحقق من أن أسلحة كيميائية استخدمت هناك». سريعاً، وفي تزامنٍ لافت تسابقت وسائل إعلام إلى الحديث عن «استخدام النظام أسلحةً كيميائيّة» نقلاً عن «ناشطين». وقعت «الاعتداءات» المزعومة على التتالي في كلّ من العتيبة في ريف دمشق (19 آذار 2013، أي يوم اعتداء خان العسل وبعده بساعات)، عدرا في ريف دمشق (24 آذار 2013)، حي الشيخ مقصود بحلب (13 نيسان 2013)، سراقب في ريف إدلب (29 نيسان 2013). في أيار 2013 قالت كارلا ديل بونتي عضو لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، إن «المحققين جمعوا شهادات من ضحايا وموظفين طبيين تشير الى أن مسلحي المعارضة استخدموا غاز الأعصاب السّارين».

عشيّة المجزرة

قبل وقوع المجزرة بيومين كان فريق الأمم المتحدة للتفتيش حول استخدام الأسلحة الكيميائية قد وصل إلى دمشق لأوّل مرّة. استندَت الحكومة السورية إلى هذا التفصيل لتقدّم «نفياً منطقيّاً» لأيّ مسؤولية لها عن الاعتداء. في أيلول 2013 (بعد المجزرة بحوالى شهر) استمع معدّ هذا التحقيق إلى شهادة لافتة من والد أحد ضحايا المجزرة. كان أبو فارس (اسم مستعار) يروي معاناته جرّاء فقدان ابنه وزوجة ابنه وأحفاده الأربعة في المجزرة عندما قدّم في السياق تفصيلاً مثيراً للاهتمام، ومفاده أن المسلحين قاموا بتجميع عدد من عائلات المنطقة في بناء قيد الإنشاء عشية حدوث المجزرة (قبل خمس ساعات من بدء الهجوم). وقال أبو فارس «كانوا يسكنون في جوبر، ولم ينفعهم تنفيذُ الاحتياطات التي طلبها منهم المسلحون». ولدى سؤاله عن تلك الاحتياطات، قال أبو فارس «خبروهم أول المسا إنو النظام رح يضرب كيماوي، وقالولهم فوتو على هي البناية اللي عالعضم (قيد الإنشاء) ما بيصيبكم شي». وأضاف «كل الناس فاتت على هاي البناية، وكلهم ماتوا».


التحقيقات

في 16 أيلول 2013 صدر تقرير لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة. لم يحمل التقرير مسؤولية الهجوم لأي جهة أو طرف، واكتفى بوصف الهجوم بأنه «جريمة خطيرة». أمّا منظمة «هيومان رايتس ووتش» فقد أكدت «حصولها على أدلة توضح وقوف قوّات النظام السوري وراء مجزرة الغوطة». بالعودة إلى تقرير المنظّمة المفصّل، يتّضح أنّ «الأدلّة» كانت عبارةً عن تحليلات واستنتاجات مستندة إلى «شهادات عدد من الشهود، وأشرطة مصوّرة وفّرها ناشطون». اللافت أنّ تقرير المنظمة بدا أشبه باستنساخ (مع كثير من التوسع) لتحليلات عرضها ناشط بريطاني يُدعى إليوت هيغنز (اشتهر باسم براون موسز) يقيم في مدينة ليستر، وقد وصل إلى استنتاجاته بعد «تحليل عشرات الفيديوهات التي رفعها الناشطون».

الشهادات

تحدّث كثيرٌ من الشهادات التي تمّ تداولُها عن «وجود رائحةٍ قويّة وغريبة» في المناطق المستهدفة، وشبّهها بعض الشهود بـ«رائحة البيض الفاسد» وآخرون بـ«رائحة الخل». تُناقض هذه الشهادات الخلاصة التي وصلت إليها «التحقيقات» والتي جزمت بأنّ المادة المستخدمة في الاعتداءات كانت غاز السارين. ومن المعروف أنّ أبرز خواص السارين أنّه بلا لون ولا رائحة. أكّد تقرير «هيومان رايتس ووتش» أنّ «أيّاً من شهادات الشهود لم تصف أثر ارتطام الصواريخ، ولم يتبين من صور مخلفات الصواريخ أو من التقارير عن إصابات الناس في المكان، أن الهجوم كان بحمولة شديدة الانفجار». أمّا تقرير «مركز توثيق الانتهاكات» (منسّقته العامّة رزان زيتونة) فقد تحدّث عن «دمار وأضرار ماديّة كبيرة». كذلك، حفلت معظم الشهادات المتداولة (بما فيها المنقولة عن مسعفين، وناشطين إعلاميين، ومتحدثين عسكريين باسم الفصائل) بكلام عن «أصوات انفجارات»، في الوقت الذي تحدثت فيه التقارير «الاحترافيّة» عن «تميز الصواريخ التي تحمل رؤوساً كيميائية المستعملة في الهجوم بأنها لا تحدث صوتاً بعد انفجارها». وراجت لاحقاً رواياتٌ «توفيقيّة» تحدثت عن ترافق «القصف الكيميائي باستهداف واسع النطاق بواسطة قذائف الهاون».

إرشادات سلامة مغلوطة؟

من الملاحظات اللافتة أنّ «مكتب توثيق الملف الكيميائي» كان قد نشط منذ إنشائه في تعميم «إرشادات سلامة» تطلب من السكان «تجهيز غرف وأقبية معزولة» للجوء إليها في حال التعرّض لاعتداء كيميائي. بينما تؤكّد معظم الجهات المتخصصة أنّ الإجراء الأسلم في هذه الحالة هو «التوجّه إلى أعالي المباني» لأنّ الغازات السامة ثقيلة، وتتركّز في المناطق المنخفضة. ويشير تقرير «مركز توثيق الانتهاكات» إلى أنّ «توجّه الناس إلى الأقبية قد تسبّب بارتفاع عدد الضحايا». ويبرّر التقرير هذا السلوك بأنّ «الناس اعتقدوا أنه قصف بالهاون»، رغم أنّ عدداً من الشهادات التي أوردها التقرير ذاته قد تحدّث عن قيام المسعفين والناشطين أثناء حدوث الاعتداء بتوجيه السكّان إلى «المباني المرتفعة».




روايات «دُفنت حيّة»

علاوةً على الرواية التي هيمنت على معظم وسائل الإعلام مؤكّدة مسؤولية الحكومة السورية عن الهجوم، ثمّة رواياتٌ أخرى لم تحظَ بنصيبٍ من الانتشار بل تمّ دفنُها. من بين تلك الروايات واحدةٌ نشرتها صحيفة «السفير» تشير إلى مسؤوليّة «جيش الإسلام» وتقول إنّ موسكو قدّمت أدلّة مدعّمة بصور التقطتها الأقمار الصناعيّة. كذلك تركت رواية أخرى الباب مفتوحاً أمام احتمال مسؤوليّة كلّ من الطرفين (الجيش، والمعارضة) عن الهجوم. واستندت هذه الرواية إلى تصريحات أطلقها رئيس بعثة الأمم المتحدة للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا إيك سيلستروم حول المسافة التي انطلقت منها الصواريخ





فريق رزان زيتونة والمجزرة

هناك علاقة بين اختطاف الناشطة رزان زيتونة وفريق «مركز توثيق الانتهاكات» على يد «جيش الإسلام» (في 9 كانون الأول 2013) وبين مجزرة الغوطة. هذا ما يؤكده ناشط إعلامي بقي في دوما حتى منتصف عام 2014، قبل أن يغادر في رحلة معقّدة وينتهي به المطاف لاجئاً في إحدى الدول الأوروبيّة. يقول الناشط لـ«الأخبار» إنّ «اختطاف زيتونة وفريقها لم يكن بلا مقدّمات. حدثَت مماحكات كثيرة بينها وبين مسلّحي جيش الإسلام قبل الاختطاف بشهر». يؤكد الناشط السابق أنّ «فريق المركز توصّل إلى عدد من الاستنتاجات والمعلومات تؤكّد أنّ عدداً من قادة الفصائل في الغوطة كانوا على علمٍ تامّ بما سيحصل ليلة المجزرة». ثمّة رواية أخرى تفيد بأنّ حادثة الاختطاف وقعت إثر «خلافات ماليّة» بين فريق المركز وبين «لواء الإسلام»، يُعلّق لناشط عليها بالقول: «لا أدري، لكنني متأكّد من ارتباط الحادثة بملف الكيماوي».