دمشق | يحدثنا أحد المترجمين السوريين ممن تبقّوا في البلد، عن حادثة جرت في عام 2004، عندما جاء عسكري إلى منزله ليسلّمه مذكرة تبليغ للحضور إلى فرع فلسطين في البرامكة. العسكري كما وصفه المترجم شاب لطيف وخجول. جلس العسكري في غرفة المكتبة، وعلى الحائط المقابل تماماً لمكان جلوسه، وقع نظره على صورة لكارل ماركس كانت قد علّقت أعلى المكتبة. يقول المترجم:سألني الشاب: مين هاد؟ أجبته: هاد كاتب.
أردف قائلاً: هاد كبير، ما هيك؟ ليستطرد: من وين هاد الكاتب؟
أجبته: من ألمانيا. سألني مرّة أخرى: ألمانيا هي بعيدة ما؟ أجبته بهزّة من رأسي، نعم.

شرب العسكري قهوته، واستأذنني الذهاب، وقبل أن يصل عتبة الباب: التفت إليّ قائلاً: ممكن أسالك سؤال: ليش كل اللي بيستدعوهن على الفرع عندن كتب؟
بعد سطوة زائر الفجر على مقتني الكتب والقرّاء، وبعد اعتبار القراءة تهمة، جاءت الحرب المجنونة لتسطو على الكتب والمكتبات، ليخترق الرصاص صفحات الكتب ويغتال أبطال الرواية. باتت حال الكتب كحال الناس، تعاني الموت والاكتئاب والعزلة. مكتبات ضخمة ضاعت تحت الركام، لم يلتفت إلى حزن أبطالها سوى مؤلفيها ومن يقتنيها.

القرآن يدير ظهره للإنجيل

حدّثنا المترجم زياد الملا (مترجم بليخانوف) عن مكتبته التي ضاع معظمها كمن يحتضر: هناك في القابون حيث كنت أسكن، كنت سعيداً في مكتبتي التي كانت مكاناً لطعامي وشرابي ونومي ودراستي وترجمتي. كنت أستمتع بالنظر إليها، أملأ عينيّ بعناوينها. لم يرسم الواقع لي صورة سيّئة عن الوضع رغم التحذيرات المتواصلة التي تدعوني إلى بيع المنزل والخروج. تمسكت بالبقاء، إلى أن خرجت مجبراً تحت القصف الذي طال في ما بعد المنزل وأحاله إلى ركام.
نسأله، ماذا حلّ بالكتب؟ حوّلوها إلى سجّادة غطّت أرض الغرفة. بعد ثلاثة أيام على القصف عدت لأتفقد المنزل. أخبرني الجيران أن البيت تم تعفيشه (سرقته) قبل أن ينال منه القصف. يقول زياد: وجدت كتباً منها مفتوحة على الأرض تفرقع ضحكاتها، كتب أخرى كانت مغلقة تنتحب وتبكي، إلى جانبها كتب غطّت وجهها بكتب أخرى. في الزاوية المقابلة أدار القرآن ظهره للإنجيل، وكذلك فعل الإنجيل، وقد فتح كل منهما صفحاته باتجاه السماء. يبدو الكتابين كما لو كانا في حالة خصومة، تماماً كما هي حال أتباعهما الآن على الأرض. المقدّس الذي أشعل الحرب لم يشغل اهتمام أحد سوى أرضية الغرفة.

موت الخجل...

ما لم تسطُ عليه الأزمة سطا عليه موت الخجل. على رصيف الحلبونة (البرامكة ـ دمشق)، وجدت على الصفحة الأولى من أحد الكتب إهداءً بتوقيع الفنان الراحل هاني الروماني، جاء فيه: «من هاني الروماني إلى الصديق العزيز... أهدي هذا الكتاب». الكتاب الذي من المفترض أن يكون في مكتبة المهدى إليه، بات مكانه على رصيف الكتب التي تباع بأثمان رخيصة. في الاستفسار عن الموضوع، أخبرنا بائع الكتب أن ابنة الصديق المهدى إليه قد باعته الكتاب من ضمن مجموعة من الكتب تعود لوالدها، مع تكتّم شديد أصرّ عليه البائع، من دون أن نعلم ما السبب أو ما العائد الذي ستجنيه فيما لو كان السبب مادياً.
جورج برنارد شو، الكاتب والمسرحي الانكليزي (1856 - 1950)، كان قد تعرّض للموقف ذاته عندما توجه الى إحدى المكتبات التي تبيع كتباً مستعملة، فوقع نظره على كتاب يحوي بعض مسرحياته القديمة، وعندما فتحه هاله أن يرى النسخة التي كان قد أهداها إلى صديق له، وكتب عليها بخطّ يده: «إلى من قدّر الكلمة الحرة حق قدرها، إلى الصديق العزيز مع أحرّ تحيات برنارد شو». فما كان من «شو» إلا أن اشترى النسخة مجدداً وكتب تحت الإهداء الأول: «جورج برنارد شو يجدّد تحياته الحارة إلى الصديق العزيز الذي يقدّر الكلمة حق قدرها»، وأرسل النسخة بالبريد المضمون إلى ذلك الصديق.

نبيل الملحم سينقذ (ميرسول)

فيما لو دخل أحد الفصائل المسلحة منزله في المستقبل وخيّره ما بين الثلاّجة والمكتبة، يقول الروائي السوري نبيل الملحم، حتماً سأختار الثلاّجة؛ فالثلاّجة بالنسبة إلى الملحم أهم من مكتبته التي تضم 10 آلاف كتاب. نسأله، لو أتيح لك أن تنقذ كتاباً واحداً، ما هو الكتاب الذي ستنقذه؟ يجيب: «مكتبتي عبء عليّ، تزعجني رائحتها، هي فقط جزء من ماضيّ، لا أحب أن أبدّد الماضي، لكنني سأنقذ «ميرسول»، بطل ألبير كامو في رواية الغريب، وما السبب؟ «لأنه يشبهني»، يجيب. وبماذا يمكن أن تحتفظ أو تنقذ من مكتبتك أيضاً؟
ــ أنقذ هادي العلوي. لماذا؟ لأنني «أخو قحبة».

يغضب كي يستريح

إذن تعالوا الى أصل الحكاية: كان الباحث هادي العلوي يعاني من الربو، وكانت لديه عادة أن يطلب من أصدقائه أن يحكوا له شيئاً يجعله ينفعل، فالانفعال يسبّب له يسراً في التنفس، والأصدقاء ما كانوا يتأخرون عن نجدته بالقصص المستفزّة. الكاتب نبيل الملحم صديق العلوي، روى لنا كيف جعل هادي يغضب عندما قال له «يا أخو حسن العلوي»، وكان معروفاً عن هادي أنه لا يحب أخيه، وبينهما عداوة كبيرة، فما إن سمع اسم أخيه، حتى غضب وأطلق سيلاً من الشتائم لصديقه، بما فيها «انت أخو القحبة».

الملّوحي... باع كتبه وأبطاله

يسترجع المترجم زياد الملا بعضاً من ذكرياته مع الشاعر السوري عبد المعين الملوحي (1917 ـ 2006). كيف كان يعتني بمكتبته، وينظر إليها كما لو أنها قطعة من روحه، فيعدّل من هندامها ويحسّن من مظهرها. وحده كان يرى التفاصيل الصغيرة التي لا يمكن للآخرين أن يلاحظوها. يروي لنا صديقه الملاّ قائلاً: في إحدى المرّات جلست في مكتبته، وكانت تضم 14 ألف كتاب. نظر الملوحي إلى رفوف المكتبة وقال فجأة: «الله يرضى عليك، هداك الكتاب كأنه مقدّم شوي، أعده قليلاً ليصبح في موازاة الكتاب الأحمر». وكيف كانت النهاية؟ النهاية كانت أن انزاح الأحمر عن الأخضر إلى الأبد. فقد باع الملوحي مكتبته قبل وفاته بـ4 ملايين ليرة، وكانت تساوي في ذلك الوقت أكثر من 10 ملايين، ووزع العائد على أولاده. ضاعت المكتبة ومعها تاهت روح الشاعر صاحب القصيدة الأشهر في هجاء الإله: أبهيرتي خرف الإله ومات من زمن بعيد
فعلام تعبده البهائم في الركوع وفي السجود؟
مات الملوحي بحسرته، وها هو زياد الملاّ وقد أضاع مكتبته لا يطلب سوى استعادة كتاب واحد من ترجماته، الجزء الثاني من ترجمة الأعمال الكاملة لـ بليخانوف.
يقول له نبيل الملحم: «المجموعة كاملة عندي، تعال وخذها، وحين أهمس له: عن جد؟ يجيبني:
فليأخذ الكارثة عن ظهري».