موسكو | في الطريق إلى ساحة الكرملن، كان علينا نحن السوريين أن نستبدل عيوننا بعيون أخرى كي لا نبكي ونحن نرى شوارع موسكو تصرخ بالحياة والفرح والنصر، وخلفنا في دمشق تركنا شوارع تصرخ من وحدتها بعد أن خانها عشّاقها ورحلوا. الجميع يمشي باتجاه الساحة الحمراء بعد أن أغلق الطريق المؤدي إليها. الشوارع تحوّلت إلى منصّات استعراض. راقصون ومغنون وعازفون، محاربون قدماء بنياشين، إنه يوم النصر في روسيا. شمس موسكو الباردة استيقظت باكراً لإلقاء التحية على أحفاد الجيش الأحمر.
في انتظار بدء العرض، وبينما كان القادمون الجدد يأخذون أماكنهم حول الساحة ورجال الحراسات الخاصة ينظمون دخولهم وجلوسهم، كنا نحن مجموعة السوريين نبحث عن مكان نلقي فيه عقب سيجارة. بحثنا حول الساحة وفي الحديقة. حاولنا أن نرميها على العشب في غفلة من الناس من دون أن نثير انتباه أحد. لكننا لم ننجح. أخيراً قرر صديقنا المدخّن أن يأكل عقب السيجارة ويبتلعه على أن يرميه، لأنه يخجل من رمي وردة في هذه الشوارع النظيفة، فكيف يرمي عقب السيجارة؟ على حدّ قوله.
قبل خمسة عشر عاماً من الآن، لم يكن أحد يعرف فلاديمير بوتن. لم يكن له عشّاق أو مؤيدون، حتى إن أحداً لم يكن يرى له مستقبلاً سياسياً. شخصية غير معروفة. جاء في وقت كانت تعاني فيه روسيا من أزمة اقتصادية وسياسية عميقة؛ الروبل يتراجع، الفقراء يتزايدون، القدرات الصناعية تنهار... في تلك الظروف (1999)، أشار الرئيس الفاقد للثقة بوريس يلتسن إلى بوتن كشخص قادر على جمع من سيمثلون روسيا العظمى في القرن الواحد والعشرين. دون شك، كان يلتسن في لحظة صحو حين قال ذلك، وهو الثمل على الدوام.
بعد 15 عاماً من حكمه، ما الذي تغيّر؟ من هو بوتن اليوم؟ نسأل وتجيبنا «ديلّا»، وهي من حضور العرض، بلغتها الإنكليزية المتواضعة: بوتن اليوم هو كقانون الجاذبية، لا يمكنك أن تقاومه إذا كنت في موقع المؤيد له، ولا يمكنك إلا أن تعترف به كخصم إذا كنت في موقع المعارض.

قبل خمسة عشر عاماً من الآن، لم يكن أحد يعرف فلاديمير بوتين

هو القيصر وفق ما يصفه الروس، وربما حفيد كاترينا الثانية حسب وصف جندي ورث من الحرب العالمية الثانية ذاكرة شقيّة حملت في ما حملت (26) مليون قتيل من أجل النصر على النازية. وهو، وفق الواصف نفسه، وارث الستالينية بكل ما تحمل. ولولا ذلك، لما هرع آلاف الروس متنقلين ما بين محطات المترو المعجزة التي حفرتها أظافر ستالين الطاغية، حاملين صورة الأخير الى جانب صورة بوتن باتجاه الساحة الحمراء، ليشهدوا الاحتفال بيوم النصر، مستدرجين 70 عاماً من أيام مضت، وليعلنوا للعالم رسالة جديدة، رسالة عنوانها: «هنا القوّة، وهذه صواريخنا العابرة للقارات»، معها طائرات ترقص في سماء الاحتفال، حيث الطائرة تملأ خزّان الطائرة اللاحقة بالوقود، فيما دخان الألوان يرسم للاحتفال ما يتجاوز روح المحارب الى روح الفنان التشكيلي الذي يرسم لوحة في السماء. ولا يمكن نسيان مئات البنات الصغيرات اللواتي يحتفلن بتقديم عروض الأوبرا ورقصات البجع في الحدائق والشوارع وتحت أضواء الألعاب النارية ولمعانها، وقد امتلأت بها فضاءات ليل موسكو ما بعد انتهاء احتفالات الساحة الحمراء. هناك حيث رسائل السياسة تصل برسائل الحياة.
هي روسيا، فإما تكون بذراعها الطويلة، أو لا تكون. وهذه الحال وقد برهنتها حربان عالميتان. بُرهن نقيضها يوم وصل غورباتشوف الى الكرملن، هناك حيث باع روسيا للبيروسترويكا والغلاسنوست، ويوم أورثها للرئيس الثمل بوريس يلتسن. ومع كلتا الحالين بما تحملان، كانت تتدفق في شوارع موسكو وأمام متحف لينين الشهير تلك القبضات التي تلوّح طالبة كرامة روسيا، وهي قبضات تنتمي في جزء منها إلى القوميين الروس، وفي معظمها ممن يعرفون تلك القيمة العظيمة للدكتاتور جوزيف ستالين، ومعهما كان الجوعى الروس يتساءلون: «هل بوسعنا استبدال مترو موسكو العظيم برقصة من الروك أندرول أو ببعض الشكلس والكثير من الجينز؟».
في احتفالها بعيد النصر، تستعيد روسيا اليوم كرامتها. فعرض القوّة في جوهره، هو عرض «الكرامة» تلك، وها هي السيدة الروسية التي تحمل اسماً إسبانياً تقول لنا: «حين تكون روسيا بخير ستكون سوريا بخير، الروس لن يتخلوا عن سوريا، افهموا ذلك». وحين أستدرك لأنظر إلى الأعلام التي ترفرف في ساحات الاحتفال (وهي ساحات ممتدة على طول موسكو وعرضها)، لا أرى علم «الثورة السورية»، ولا شيء من هتافات «بالذبح جيناكم».
هل هو الغاز الكامن في بحر سوريا؟ نسألها، أم هي قاعدة عسكرية في ميناء طرطوس؟ نسأل ناتالي وكأننا نتّكئ على الجرح الروسي لتطبيب الجرح السوري، تجيبنا ناتالي:
-لا .. ما زال للروسي بعض من الرومانسية والكثير من المبادئ. ثم تستدرك ساخرة: ولمَ لا؟ لمَ لا يكون الغاز واحداً من أسباب دفاع الروس عن الصينيين؟