لم تعد اللاذقية تلك المدينة بدائية الحياة الاقتصادية. ولم تعد التجارة فيها تقتصر على ما يسد الرمق، من أعمال بسيطة، تشبه طابع المدينة الساحلية، متأثرة بهدوء المدينة الشديد، وبرودة يومياتها، ما جعل الحياة فيها بطيئة. المدينة التي امتزج الحلبيون في نسيجها الاجتماعي، باتت، اليوم، تحوي خليطاً اقتصادياً، يحمل الروح الحلبية وروح الحركة الدؤوبة، فالحلبيون تجّار مهرة، نقلوا عدواهم إلى اللاذقية، واستطاعوا ترك أثرهم في مختلف التعاملات التجارية في المدينة.
اختلفت ثقافة العمل مع وصول الحلبيين إلى اللاذقية، وبدأت المدينة تتعرف إلى حرف ومصالح، كانت في ما مضى تتكل فيها على مدينة حلب، رغم المسافة الكبيرة بين المدينتين، فراحت تنتشر المشاغل في أسواق وحارات اللاذقية، من ورش الخياطة، وتصليح السيارات، إلى ورش صياغة الذهب، وتمديد الكهرباء.

اللاذقية تحتضن تجار حلب وحرفييها وصنّاعها مستفيدة من خبراتهم الطويلة

اللاذقية التي عانت في الأشهر الأولى من الحرب على حلب، ما يشبه الشلل الاقتصادي، باتت اليوم تحتضن تجار حلب وحرفييها وصنّاعها، مستفيدة من خبراتهم الطويلة، كما استفادوا هم من وجودهم في مدينة لا تزال بدائيّة في هذه القطاعات. محمد، سائق سيارة أجرة، من مدينة اللاذقية، يقول إنّه كان، سابقاً، يعمد إلى زيارة حلب سنوياً لصيانة سيارته في منطقة الراموسة (مركز تجمع ورش تصليح السيارات)، ويتابع في حديث مع «الأخبار»: «في الأشهر الثلاثة الأولى، بعد وصول الحرب إلى حلب، وقبل بدء افتتاح الورش الحلبية في المدينة الصناعية، في اللاذقية، تكلّفتُ أضعافاً مضاعفة، لمحاولة إصلاح سيارتي، بذات الجودة التي كنت أحصل عليها في الراموسة، وفشلت. اليوم أنقذت الورش الجديدة جيوبنا، وآلياتنا». كذلك أسهمت ورش الخياطة التي انتشرت بكثرة في مدينة اللاذقية، في خفض أسعار الملابس الوطنية، جزئياً، في الأسواق الشعبية، مقارنة بتلك التي يضاف إلى سعرها تكلفة نقلها من محافظات بعيدة، خاصّة بعد الارتفاع الكبير لأسعار المحروقات، وإضافة تكاليف حماية البضائع على الطرق الداخليّة، بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرّة. ويلاحظ من يراقب أسواق اللاذقية اليوم، تأثرها الواضح بالنشاط التجاري، الذي يتقنه الحلبيون. فمنذ الأشهر الأولى لبدء «اجتياح» الحلبيين الأسواق التجارية، بدأت المحال تفتح أبوابها في الصباح الباكر لتقديم خدمات مختلفة، وهو ما لم تعتده اللاذقية التي تنتظر ما قبل الظهر، لتعلن بدء الحركة الاقتصادية، ما جعل عدوى «السعي وراء الرزق» باكراً تصيب أبناء المدينة، من أصحاب محال، ومستثمرين لها. غير أنّه إلى جانب هذا الأثر الإيجابي، برز أثر سلبي، تمثّل بانقسام أهل المدينة، بين مشجّع ومتشجع لظاهرة التأثر بالنشاط الحلبي، ومتذمّر من مشاركة الحلبيين أبناء المدينة بأسواقهم، فارضين ظروفهم، وعاداتهم عليها. أبو عبدو، حلبي، صاحب ورشة للتمديدات، والمعدات الكهربائية، يقول: «إن سوق المدينة لم يستقبل الحلبيين بأذرع مفتوحة، فإلى جانب زيادة أسعار العقارات، بيعاً وإيجاراً، للمستثمر الحلبي، فإن عدداً من أبناء المصلحة في سوق العوينة، طالبوه بالتأخر في فتح ورشته، في الأسابيع الأولى من عمله، إلا أنهم، لاحقاً، اتبعوا عادته، وباتوا يفتحون ورشهم باكراً، لمنعي من سرقة الرزق الصباحي».

أسواق اللاذقية تأثرت بوضوح بالنشاط التجاري الذي يتقنه الحلبيون

إسهام الحلبيين في سوق العمل اللاذقاني، لم يقف عند حدود البيع والشراء والحرف اليدوية المتقنة، بل تقاسم هؤلاء الأعمال اليدوية الشاقة، كأعمال «المياومة» بكونهم عمّال بناء، وعتّالة، ومزارعين، ما خلق حالة تنافسية، اعتبرها بعض أهل اللاذقية غير عادلة. فبحسب ابراهيم، عامل مياوم في الأراضي الزراعية، فإن توافد الحلبيين، واقبالهم، كعائلات كبيرة العدد، ومنخفضة الأجر، للعمل في الأراضي الزراعية، سبّب «قطع رزقه»، هو وأمثاله، من العاملين بأجر يومي، مضيفاً: «قلة أجرهم، وكثرة عددهم، أجبرتانا على خفض أجرنا اليومي والساعي، حتى نتمكن من إيجاد عمل».
بالتوازي مع هذه التغييرات الفاعلة في السوق التجارية في اللاذقية، تظهر مجموعة من المشكلات، تتمثل بزيادة أسعار العقارات وازدحام الشوارع ومحطات الوقود، نتيجة الكثافة السكانية المستجدة، التي لم تتعامل معها الحكومة بنحو مدروس، لناحية زيادة مخصصات المحافظة، بما يتناسب وعدد الوافدين إليها. اليوم يجب على أبناء حلب والمدينة الساحلية البحث عن طريقة تعينهم على أعباء فرضتها سنوات الحرب المتواصلة، فيستمر اللاذقانيون برفع إيجارات عقاراتهم، ويستمرّ الحلبيون باعتماد معادلة «الرزق يحب الخفية»، في تطبيق مبدأ «ربح بسيط وبيع كثير».