هي ليست مجرّد صورة. إنها ذاكرة يلتفّ الجميع حولها، ربّما رغبة منهم بتأكيد وجودهم، وربما هذا ما دفعني، من باب الاختبار، أن أضع صورة لعدولة (عادل) على صفحتي الشخصية على فيسبوك، فقد سمعت سابقاً أنّ للأماكن أرواحا موزّعة على زواياها وجدرانها. صورة عدولة نالت عشرات الإعجابات من أبناء مدينتي. عادل، المصاب بمتلازمة داون، الذي يمتهن التسوّل، هو إحدى الشخصيّات المعروفة في مدينة اللاذقية، ويكاد يكون أحد معالمها. شخص محبوب بسبب لطفه، و"أناقته"، وابتسامته الطيبة، وعبارته الشهيرة "بدي خمسة لاتجوز".
حين ألقيت نظرة على قائمة المعجبين بالصورة فوجئت بما كنت أعرفه مسبقاً وأخادع نفسي به. لقد فوجئت بحجم الشتات السوري. أسماء أعرفها جيداً، عشت ولهوت واختلفت مع أصحابها. إنهم اليوم يتوزعون على كامل خارطة العالم، وخارطة النزاع السوري. هؤلاء المتناثرون جمعتهم صورة لعدولة، باحثين فيها عما يربط روحهم ببلدهم. إنهم اليوم يتراشقون الحسد. نحن الذين بقينا مع عدّولة، نعيش ضمن الحدود الدنيا من كل شيء، أصدقاؤنا ذهبوا وتركونا.

صديقي المحامي في دبي، وشلة الأطباء توزعوا بين ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، والمهندسون تفترسهم كندا، أصدقاء السهر في السويد وهولندا، وآخرون في لبنان وتركيا والصين وڤنزويلا، حتى تاهيتي كانت وجهة للبعض. يقول صديقي: "يعضّهم الحنين، فيضعون إعجاباً لصورة عدّولة؟ يزعجهم الازدحام بين الشارقة ودبي؟ يرون أن المجتمع الرأسمالي يمتصّ جهودهم وأعمارهم؟ هل ينحشرون في باصات النقل الداخلي وينتظرون تحت الأمطار، وفي البرد؟ يتألمون لحالنا فيبكون في سرهم ويشاغبون على الفيسبوك، ويقتطعون في الصيف أسبوعاً أو أسبوعين من إجازتهم يمضونها كسياح". أقول في سرّي: "سياح...!"، وأعود بذاكرتي إلى التقارير الإخبارية، إلى قوارب الموت، والتشرد بين المطارات، ومخافر الشرطة، ومراكز الإيواء، وخيم اللجوء، والتيه في الغابات بين الدول، ومخاطر الاختطاف والاستغلال. أعود إلى أحاديث أصدقائي في المغترب، إلى صفوف تعلم اللغات وامتحانات التقييم وامتحانات القوانين، والتوهان في بيروقراطيات العالم المتمدن، وخوفهم الدائم من تغير القوانين، إلى العنصرية التي تلاحقهم حتى أقصى بقاع الأرض. نحن الذين بقينا مع عدولة، نحبه لأنه الوحيد الذي يذكرنا بأنه قد يكون للـ "خمسة" قيمة بعد اليوم، ويحبه اخوتنا المغتربون لأنه يذكرهم بأنه في البلاد من يصرّ على حلمه "بالزواج" برغم كل شيء. يجمعنا عدّولة كما تجمعنا العبارة السورية التي أفرزتها الأزمة "يلعن كل شي". أقول لصديقي، قد نختلف في تقييمنا للمغتربين، ولكنهم ثروة لكل البلاد التي لجأوا إليها، والأسوأ أن النزيف السوري لن يتوقف بعد الآن، وللأسف فإن تعويضه لن يكون ممكناً في الوقت القريب، سيمرّ وقت طويل قبل أن يستطيع البلد بناء ما فقده من كوادر وكفاءات. سوريا تغص بالفقدان، الحرب تعني الموت والهجرة. أبتسم، وأقول لصديقي، هل تتذكر اللافتات التي رفعت في التظاهرات والمسيرات بدايةَ الحراك؟ "الشعب السوري ما بينذل"، "الشعب السوري أرقى شعوب العالم"، "سوريا سبعة آلاف سنة من الحضارة"؟