المباني تهيمن على الأرصفة
تعيش بيروت نوعاً من التوتّر المديني، بعدما نزحت إليها أعداد كبيرة من سكان القرى من الجنوب والبقاع وازدادوا بشكل مطرد في السنوات العشر الأخيرة. فيما لفظت المدينة أكثر النازحين الفقراء، الذين لم يملكوا المال حتى يتملكوا جزءاً خاصاً بهم في العاصمة، ولم تعترف بهم الدولة في مشاريعها ومخططاتها.

وذلك بعدما احتلت الطبقات الغنيّة وسط العاصمة، المركز الأساسي للشركات التجارية والإدارات الرسميّة، وتركت الأطراف للطبقات الاجتماعية الأخرى. بعكس التمدد الحاصل في أوروبا، اذ تقطن الطبقات الغنية في أطراف المدن، وتلجأ الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى الوسط حيث أماكن عملهم. فيما يعتبر البعض من سكان بيروت أن أكثر من كرّس هذا المشهد هي «سوليدير»، بعدما عزلت طبقات اجتماعية بكاملها عن شوارعها وبحرها، لأنه لا قدرة شرائية لهم فيها أولاً، وثانياً لأنها لم تعد تشبههم. هذا إن لم نتحدث عن مشاريع طارئة على المدينة مثل مشروع «Landmark of Beirut» بالقرب من ساحة رياض الصلح، الذي يعمل عليه مهندس فرنسي لم يغرق في حياة الناس هناك حتى يخطط المبنى على أساسٍ يشبه بيروت، المدينة التراكمية. وكذلك مشروع «Beirut Gate» ناهيك عما يعرف بالـ«Souks» وما إلى ذلك من مجمعات تبعثر عقد الذاكرة. الذاكرة المستحدثة للأغنياء فقط، صارت بيروت مدينة صامتة، لا تحكي ولا تتفاعل، بعدما اختلّ التوازن البشري مع المدينة. ولم تعد على مستوى الناس الذين يسكنون فيها، ولم تعد المباني تنعتق عليهم تلقائياً، بل يشعر البعض بأنها تهيمن عليهم.

أحياء بفروقات طبقيّة كثيرة

يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو إنّ الهندسة المعمارية أضحت، منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا، منهجاً سياسيّاً بامتياز. في عصر الحداثة، أصبحت المدينة هي صورة الدولة. يمكن بذلك فهم الكثير عن تصوّر الدولة للمجتمع عبر تعامل السلطة مع مدنها. تفتقد بيروت إلى الكثير من الأمور التي تندرج تحت مسمّى التنظيم المدني وحقوق الإنسان ضمنه. «لا قواعد ثابتة للتنظيم، إنما هناك محاور أساسية لا غنى عنها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار قبل الشروع بأي مخطط عمراني على الأرض، وهي: السكن، العمل، التربية، الصحة، الترفيه،
لا نزال نرى أحياء متلاصقة في بيروت تبرز بينها فروقات طبقية هائلة، كشوارع فردان الرئيسية والأحياء الداخلية، أو الشياح وعين الرمانة، أو الباشورة والبسطة ووسط البلد»

والمواصلات، لكننا لا نجدها مجتمعة في بيروت»، وهذا بحسب المهندس والدكتور في التنظيم المدني وديع قنبر. يُرجع قنبر السبب إلى النظم السياسية في البلد، التي تتحكم بدورها في شكل المدينة، وفقاً لمصالحها الاقتصادية والسياسية. وهذا يفسّر أن «تنظيم المدينة هو انعكاس مباشر للنظام السياسي فيها». تضع أنظمة الدول في الخارج مخططاً توجيهيّاً، يحدد مساحة كل مدينة وعدد سكانها الحالي وعدد سكانها المرتقب في السنوات المقبلة، مع دراسة حاجات الفئات العمرية كافة، لكن لبنان يفتقد إلى هذا كله، في وقت لا نزال نرى أحياء متلاصقة في بيروت تبرز بينها فروقات طبقية هائلة، كشوارع فردان الرئيسية والأحياء الداخلية، أو الشياح وعين الرمانة، أو الباشورة والبسطة ووسط البلد». والراحل عاصم سلام، حذر مراراً وتكراراً من هذا، غير أن أحداً لم يرد أن يعيره آذاناً صاغية. يرجع السبب الرئيسي في اللا تنظيم الحالي إلى أن مديرية التنظيم المدني في وزارة الأشغال «أنشئت ويكلف فيها المسؤولون على أساس توازنات سياسية لبنانية، لا يدخل فيها الاعتبار العلمي والتخصصي».

ورد على الطريق؟

«بيروت مخنوقة»، يردد الرجل السبعينيّ بينما ترافقه زوجته في المشي على الكورنيش. «لا شيء فيها حقيقي، نسترق الوقت حتى نخرج من العلب التي نسكن فيها، لم يبق لنا سوى الكورنيش». لا ينتهي النهار في بيروت إلا ويشرع الناس في البحث عن أماكن يخرجون إليها. والتفكير بذلك مضنٍ. إذ إن القطاعات الخاصة باتت مستولية بشكل شبه كلي على المساحات العامة. حتى باتت أغلب الأمكنة محاطة برجال الأمن ومواقف السيارات التي كان بعضها في السابق ملاعب، والمقاهي المنتشرة على أطراف الشوارع، ورسوم الاشتراك، بالتوازي مع ندرة الحدائق العامة والمكتبات والمسارح والأماكن التراثيّة، التي لا نرى منها سوى لافتات في بعض الأحياء تقول «حيّ ذو طابع تراثي» وفي ما يتعلق بالمساحات الخضراء، فإن القانون اللبناني يشرّع بعشرة أمتار من المساحة الخضراء لكل مواطن، غير أننا لا نرى الزرع غالباً إلا على الأرصفة، بعدما يرتأي أصحاب «الخبرة» أن يزرعوا الشجر والورد وسط الرصيف، ما يعد انتهاكاً لحقّ الإنسان في مساحة الأرصفة كلها. «في لبنان توجد قوانين لكل بناء بمفرده ولا توجد قوانين للمدينة وعلاقة كل بناء بالشارع والناس. أما بالنسبة لأزمة النقل والمواصلات، فإن الجسور التي بني بعضها لأغراض تجارية، اضطرت الناس إلى استعمال السيارات طوال الوقت ما خلق حالة الزحمة المستمرة»، يقول قنبر.

شارع الألوان والذاكرة

«العمارة شكل من أشكال محبة الناس»
(بول فاليري)
لا يكتمل مشهد المدينة من دون توغل الناس فيها، حتى تتكون هذه العلاقة المتجانسة، التي يمكن بعدها القول إنها مدينة أليفة. في أميركا مثلاً، رغم وجود الكثير من ناطحات السحاب في الشوارع، إلا أن قاعدة المباني ممتلئة بالمحال التجارية كالدكاكين وبائعي الزهور والثياب والطعام، حتى يشعر الناس بأن المبنى يحضنهم. بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بتنظيم الشوارع، عكس ما يحصل في مدينة بيروت ككل، باستثناء بعض المناطق حيث يرتد إليهم بالمصلحة والمنفعة. هذا ما يقوله العائدون من العالم الجديد. شارع الحمرا مثلاً، من أكثر شوارع بيروت ألفة، لأن طباع الناس ومزاجاتهم تشبه تقطعاته والتمامه على بعضه بعضاً. كذلك الأمر بالنسبة للمباني وعلاقة الناس في ما بينهم. بعد حرب تموز مثلاً، وورشة الإعمار التي حصلت، تباعدت بعض الأبنية عن بعضها، ما أدى إلى فقدان شيء من حميمية العلاقة بين الجيران. في وقت كلما ألف الناس وجوه سكان المدينة كلما تجذروا فيها أكثر. من جهة أخرى، تعدت بعض أبنية الأسواق التجارية على البنية الاجتماعية للأحياء السكنية وعلى خصوصية الناس فيها. وهناك فرق بين وجود هذه الأبنية وسط الأحياء الشعبية لجذب الناس إليها تجارياً، وبين مشهد الناس يتحدثون من شرفة إلى أخرى، ويمشون في شوارعها من دون أسباب مباشرة. وكذلك الأمر في ما يتعلق بما خلفته مشاريع «سوليدير» من خروج الناس الأصليين من المنطقة، حتى يقال إن القيمة المعنوية للأمكنة لا تُضفى إلا بذاكرة الناس فيها. والذاكرة لها قيمة معنويّة وحسب.