تونس | يمكنك اليوم أن كنت تونسياً مقيماً، في أحد شوارع العاصمة، وبخاصة الشوارع الموازية لشارع الحبيب بو رقيبة الشهير، أن تشهد «حرب الشوارع». فوضى عارمة، تحتد فجأة، وتُغلق المحال، ويركض الناس في كل اتجاه، بينما يهرول مواطنون ــ بما حملوا ــ وخلفهم رجال الشرطة. مناوشات، كرّ وفرّ، قد تسفر على اعتقالات وبعض الخسائر المادية. إنها الحرب مع الباعة المتجولين. كانوا سابقاً وفي عهد نظام «بن علي»، يتمركزون في بعض الطرقات، وبعدد محدود. وقد تختفي بضاعتهم وتظهر. وبو عزيزي، واحدٌ منهم. اليوم صرت تجدهم أينما ولّيت وجهك في شوارع العاصمة الواسعة والضيقة، ولم يخلُ منهم إلا شارع الحبيب بو رقيقة الأساسي. صار لدينا أكثر من محمد بو عزيزي وجميعه جاهز للاشتعال.
ستجدهم في أماكن عديدة، على طريق «شارل ديغول» مثلاً، الذي احتكره الباعة تماماً. صاروا بمحاذاة السفارة الفرنسيّة في قلب العاصمة. الأمر يتعدى كونهم فوضويين ويعرضون بضاعة رخيصة ومقلّدة ومهرّبة، بل يتجاوز ذلك إلى كونهم صاروا يمثلون مصدر إزعاج حقيقي، رغم تفهم المجتمع للطبقات التي يتحدرون منها.
سيجد المار في المكان بعض الصعوبات. ولا خيار إلا مواصلة الطريق الشاقة ومحاولة الوصول إلى السوق. والمشهد لا يقتصر على ذلك، إذ إن تغيّر الحكومات المتعاقبة وتغير سياسات بعضها، يدفع بكل حكومة جديدة إلى محاولة إثبات عزمها على فرض النظام، فتبدأ بظاهرة «الانتصاب الفوضوي» (للباعة المتجولين على الطرقات) التي تأتي في الواجهة وتزعج الكثيرين. فتشهد الشوارع حرباً مفتوحة في الشوارع والأزقة، أبطالها الباعة المتجولون وتمتد إلى أغلب الطرقات، وتتطور في أحيان كثيرة إلى مواجهات وأعمال شغب، لأن الباعة لا يتركون أماكنهم بسهولة. بدورهم، يتمسكون بما يعتبرونه أرصفتهم ومدينتهم. وهؤلاء الباعة ليسوا من فئة اجتماعيّة واضحة، فهم نساء ورجال وأطفال، وخصوصاً مراهقين، المشترك بينهم جميعاً نزوحهم من مدن وقرى الداخل التونسي،
الباعة ليسوا من فئة اجتماعيّة واضحة، فهم نساء ورجال وأطفال المشترك بينهم جميعاً نزوحهم من الداخل التونسي


أجاب وبعد محاولات عديدة، بأن والديه لا يريدانه بينهم، بل طلبوا منه أن يعود إليهم «رجلاً» و«نجيبلهم الفلوس ونخدم على روحي»

قدموا إلى تونس عائلات أو مجموعات، يسكنون منازل وسط العاصمة ويقطن المنزل الواحد عشرات منهم، وليكون المنزل أحياناً كثيرة مستودعاً لبضاعتهم أيضاً، ما يجعل وضهم مأسوياً بدورهم. والسكان ينزعجون عادة من جيرتهم، نظراً إلى كثرة عددهم التي تخلف إزعاجاً/ للبقية في منازل صغيرة ومتقاربة جداً كما هي عليه منازل العاصمة، بالإضافة إلى معضلة السكن المستفحلة في المدن. إنك يا صديقي في «تونس المؤقتة».

مشاريع «فتوة»

علي، هو طفل يقطن وسبعة من رفاقه، في أحد المباني المجاورة لطريق شارل ديغول، حيث يعمل مع عمه في بيع الملابس على قارعة الطريق. وعلي لم يتجاوز الثامنة من عمره على أقصى تقدير، لكنه وفي شهر أيلول، موعد العودة المدرسية، لم يكن في المدرسة، بل كان يحترف التجارة التي أرسله والداه ليتعلمها عند عمه، هذا الذي لا تربطه به غالباً أية صلة رحم، بل هو فقط رجل «من جهته». رجب جمع عدداً من الأطفال والمراهقين ووفر لهم غرفة ليسكنوها، ووجبات طعام متواضعة، مقابل أن يعملوا معه. وعلي حين تراه لأول وهلة تظنه طفلاً بريئاً لطيفاً، لكنك إن راقبت تصرفاته وكلامه لدقائق، ستصدمك جرأته وكلماته الجارحة والخادشة للحياء التي يوجهها لرفاقه أو لمن يرفض الشراء من المارة. جسده الصغير النحيف لا يوحي بما لديه من قدرة على العنف والقوة، فهو قد انتفض يحمل البضاعة ويجمعها في لمح البصر حال وصول إنذار بحملة أمنية، وقام بدفع المارة خلال هروبه تلحقه اللعنات والشتائم. وحين حاولنا سؤاله عن سبب عدم وجوده في المدرسة وفي بلدته بين أفراد أسرته (أصيل إحدى قرى مدينة سيدي بوزيد)، أجاب وبعد محاولات عديدة، بأن والديه لا يريدانه بينهم، بل طلبوا منه أن يعود إليهم «رجلاً» و «نجيبلهم الفلوس ونخدم على روحي»، باللهجة التونسية. فالطفل كمئات من أمثاله، حُرم من طفولته باكراً وهو في نهاية الأمر ضحية ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية. ألقى هذه الكلمات المقتضبة في وجهنا وعاد للسؤال عما سنشتريه بسرعة قبل عودة أعوان الشرطة. وقد عادت الشرطة فعلاً، واختفى علي وبضاعته في أحد الأزقة من جديد.