لطالما وقفت في منتصف الطريق، أتفحّص وجوه العابرات من أمامي. أحبك قصصاً تشبه نظراتهن المنكسرة، في الغالب. لا أستطيع أن أتخيل غير ذلك، فتلك الوجوه اليائسة تجرّني غالباً إلى الإفراط في التخيل. سأتخيّل مثلاً صراخ إحداهن أو «طرطقة» عظامها أو صوت دقات قلبها المتعب. لم أتقصّد يوماً التلصص على ما يجري في دواخلهن، ولكن هذه المشاهد كانت تعصف في رأسي لفرط ما عشت قصص نساء في بيتٍ كانوا يسمونه بيت المعنفات في غزة، وكنت قد عملت فيه. في ذلك البيت نفسه، رأيت وجه سحر (اسم مستعار). سمعت قصتها التي «تخلع» القلب من مكانه. عندما رأيتها للمرة الأولى، وهي مدمّاة، طرق رأسي ذلك السؤال «الوجودي»: لماذا خلقتنا إناثاً؟
كانت قد استنفدت كل الخيارات، عندما قصدت سحر «البيت». أتذكّر وجهها الذي كان ملطّخاً بالدم وعينيها المتورمتين وجفنيها المصبوغَين بالأزرق. دخلت حاملة طفلتها الرضيعة بين يديها. “بنّجني» ذلك المشهد لدقائق...

استفقت بعدها، وهي تروي قصتها. وكانت كلما «روت» مشهداً، أشعر بأن الأرض تتشقّق من تحتي. تقول سحر بأن زوجها كان يسرق نقودها، ليتناول المشروب والترامادول. لم تكن تقوى على معارضته. وعندما كانت تفرغ جيبها من النقود، كان يستحيل «الرجل ذئباً.
يجرجرني على الأرض ويبدأ بلكمي، ولا يتركني إلا عندما يشعر بالاكتفاء». في إحدى المرات، لم يشبع الذئب. ظل يضرب «فريسته» حتى خارت قواها، فانتقل إلى طفلته الرضيعة وضرب رأسها بالحائط. عندها، تمكّنت من شدّ مَن هي قطعة من روحها إلى دائرة الحياة مجددّاً، لكن كان عليها أن تدفع ثمناً لذلك. حاولت صدّه، ولكنه جرجرها كالمجنون إلى المطبخ وانهال عليها بالضرب بـ»المدقة» حتى ازرقت عيناها، ولم ينقذها وطفلتها من بين يديه إلا صوتها الذي تردد صداه في مخيم البريج لللاجئين (وسط القطاع). وقتها، تحررت سحر وابنتها، بعدما اقتادت الشرطة زوجها وأودعته السجن. لكن، لم تطل إقامته هناك، أخرجوه، وعلى طريقة العائلات، أقنعوا سحر بالعودة إليه، على اعتبار أن «الزوج سترتها للبنت»، لا همّ إن ماتت سحر، ولا همّ إن اغتصبها زوجها، بحجة شرعية، ولا همّ أيضاً إن قتلت الطفلة، كل ذلك لا يهم. المهم ألا تلطّخ سحر شرف العائلة. قالت لي بأنها لم تكن تملك خياراً آخر في حينها، تماماً كما سامية (اسم مستعار) التي لم تكن تملك خياراً هي الأخرى سوى الموافقة على زواج زوجها من أرملة «الشهيد». كان عليها أن تقبل بذلك. ففي غزة، لا يجوز للمرأة معارضة زوجها أو الخروج عن المفاهيم البالية. هكذا، تسير الحياة هناك... على وتيرة «الشرع». هكذا مثلاً، لا يجوز لسامية معارضة زوجها الذي خاف على أولاد الشهيد... فـ”ستر” عليهم وعلى أمهم. ولأنه «ما بدي أطلّع ولاد الشهيد لبرا، خليني أستر على مرت أخوي أحسن ما تتجوز وما نشم ريحة الولاد»! ولكن، هل فكّر بما قد تفعله «السترة» بعائلته؟ كانت دوماً تعيد سامية طرح ذلك السؤال. كانت تقول لي بأنها تفكّر بأن تدخل وأطفالها إلى المطبخ وتقفل الباب وتفتح «عيون الغاز» و»نغمض جفوننا إلى الأبد». وفي كل مرة، تقول لي «سأفعلها غداً».
تذكرني تلك القصص بأخرى. مثلاً قصّتَيْ زميلتَيْ في الجامعة إلهام وخديجة (اسمان مستعاران). إلهام التي اضطرت لتغيير اختصاصها من الصحافة إلى التربية نزولاً عند رغبة زوجها. فعلت ذلك، بعدما يئست من محاولة إقناعه. مرة واحدة، قال لها بأنه «موافق على أنو تصيري مذيعة بس بالمطبخ عندي بين البندورة والخيار»! أما خديجة، فلم تجد خلاصها من زواج «الدبّارة» إلا بالهرب من عائلتها والسفر خلسة إلى النروج. يومها، قالوا بأنها لطخت شرف العائلة. أما هي، فقد قالت لي بعد سفرها ـ في مكالمة هاتفية بيننا ـ أنها تستطيع الآن أن تجلس مع أصدقائها على مدرج الجامعة وأن تبادل أحدهم الحب من دون أن ترتجف وأن تركب دراجتها الهوائية من دون أن «تأكلها» الأعين.
أمّا أنا، فأعيش في الكذب، لطالما حلمت بأن أخرج إلى عتمة الليل بمفردي، أن أقفز من شارع إلى آخر، أن يهمس حفيف الشجرة بأذنيّ، أن أشهد المدينة غافيةً على استحياء. لكن، من دون جدوى. سأظل أصرخ وأصرخ وأصرخ حتى ينقطع النفس «لماذا خلقتنا إناثاً؟».