كنت أهمّ بوضع الصحن، الذي سكبت فيه الرز والملوخية في المايكروويف، حينما رن هاتفي الخلوي، فأسرعت إلى التقاطه. الرقم سري، أي private number، فحدست أنه هو، يتصل دائماً في وقت متأخر، وغالباً حينما أكون على وشك أن أقوم بمهمة مصيرية، كتناول الطعام... مثلاً. لن أردّ، قلت لنفسي، قبل أن ألتهم صحن الملوخية بالرز، ودفعت به إلى داخل المايكروويف واغلقت الباب عليه، ثم أدرت مفتاح التشغيل على توقيت «دقيقتين»، ورحت أعد الثواني. في الثانية الثالثة عشرة، رن الهاتف ثانية. هو، الملحّ العنيد، يعاود الاتصال، لم أفتح الخط، أكملت العد: ست وسبعون ثانية، والملوخية تدور في الداخل، وأستطيع أن أشمّ رائحتها تتشبّع في أنفي.
كان التلفون يضيء، والرقم السري يظهر عليه، وأنا انتظر رنين المايكروويف لكي أخرج صحن الملوخية والرز، وألتهمه. انطفأت شاشة الهاتف الخلوي، وانطفأ المايكروويف. دقت ساعة الملوخية، فسحبت الصحن بسرعة، ووضعته على الطاولة أمامي. بالملعقة وبشهية أكبر، رحت ألتهمه على عجل، عالماً أنه سيعاود الاتصال بين لحظة وأخرى. أعرفه جيداً، لن يتوقف عن الاتصال إلى أن أردّ.
قبل أن أنهي الصحن، اتصل مجدداً. ابتسمت، وتناولت ملعقة أخيرة، رحت أمضغها على مهل في فمي، وفتحت الخط لأجيب عليه. قال كلمات ثلاث: على طريق المطار، ثم اقفل الخط. عرفت فوراً أن المسألة في غاية الأهمية، وأنه كان عليّ أن أجيب، من الاتصال الأول. لكن، كيف اقاوم الملوخية؟!
خرجت من المنزل، ونزلت الأدراج على عجل، لأن الكهرباء مقطوعة. ثم دلفت إلى وراء مقود سيارتي، وأدرت المحرك وانطلقت بسرعة جنونية إلى طريق المطار. الوقت ليلاً، الطرقات فارغة إلا من بعض السيارات، وتوقفت على حاجز للجيش، فابتسم لي الجندي وسمح لي بالمرور من دون تفتيش. قلت في نفسي: يبدو أن الأمور مسهلة، والحمدلله. وصلت إلى طريق المطار، وبعد مطعم الساحة، توقفت إلى اليمين، وما هي إلا لحظات قليلة، حتى وصلت سيارة ليموزين (36 باب) وتوقفت إلى جانب سيارتي. ورن هاتفي الخلوي مجدداً. يدي ترتجف، ولكنني تداركت نفسي وأجبت. قال بصوته الثقيل: ادخل إلى الليموزين. نزلت من السيارة، ووقفت كالأبله أمام الأبواب الثمانية عشر من جهة الشوفير، ولا أعرف اي باب افتح. رن الهاتف ثانية، وسمعت صوته الثقيل: الباب السابع.
فتحت الباب السابع ودخلت. هناك، سرت في كوريدور لحوالى ربع ساعة، قبل ان اصل إلى باب مقفل، أمامه شاشة وارقام. رن الهاتف مرة جديدة، وأعطاني كلمة السر: موزة. وما ان دخلت حتى عاد وانغلق، لأجد نفسي مسجوناً في غرفة كبيرة. بعد قليل خرج أحدهم وهو يلبس دشداشة بيضاء وحطة وعقال، وقال لي بلهجة خليجية: تفضل إلى الداخل. لحقته، فإذا بي في حضرة الأمير. كانت المرة الأولى التي التقي فيها الأمير القطري. فالمرات السابقة كانت تقتصر على لقاءات تحت الجسور مع ضباط استخبارات ومرة وحيدة التقيت على درج «البارومتر» في الحمرا رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق. لم استطع تمالك نفسي. صرت أغني من فرحتي: «والهمة شدينا والموت تحدينا مدينا ادينا للشعب الصبر، شكراً شكراً شكراً يا قطر».
ضحك الأمير من كل قلبه. وأشار إلي أن اتقدم اليه، ثم طلب من احدهم أن يناوله ملفاً. تقدمت ببطء وتردد، وجلست إلى يمين الأمير، فاقترب من اذني وهمس بها: مهمتك هذه المرة على درجة عالية من الخطورة، ولهذا قررت أن التقي بك شخصياً في سيارتي الطويلة على طريق المطار، كي لا يتنبه إلينا أحد. فطمأنته إلى أن الأمور تحت السيطرة، وأن طريق المطار مكان ناء لا يمكن لأحد أن يتنبه إلى وجودنا عليه، خصوصاً أننا لسنا في واحدة من سيارات الدفع الرباعي المفيمة. ابتسم الأمير باطمئنان، وأشار إلى مساعديه بالخروج. ثم همس لي: نريدك لمجموعة من المهمات الخطيرة، ونحن نعرف انك على قدر المسؤولية، أومأت برأسي موافقاً. فتح الملف، وراح يقرأ منه خطة العملية المطلوبة مني. رحت اصغي بانتباه إلى جميع التفاصيل، حتى لا يفوتني شيء يكون سبباً في فشل العملية، التي تتطلب درجات عالية من التركيز، والمطلوب خمسة أمور: أولاً، أن اكتب مقالة في جريدة «الأخبار» بعنوان «طفل يبكي في رأسي»، ويجب أن تتضمن مؤثرات عاطفية، لكي تكون مقنعة، وأمرر من خلالها نقداً لاذعاً للنظام السوري، بأن أشير في نهايتها إلى أن السماء تمطر على خيام المهجّرين ولا تمطر فوق قصر المهاجرين. ثانياً، علي كتابة ستاتوس (عدد 3) انتقد فيها «حزب الله». ثالثاً، اعداد تقرير في قناة «الجديد» عما يعرفه الشيعة والسنة اللبنانيون عن الصراع السني ـ الشيعي. رابعاً: توزيع مجموعة من اللايكات على عدد من الكتاب المناوئين لـ»حزب الله» على فايسبوك، على الّا يقل عددها عن عشرة لايكات اسبوعياً، ولمدة شهرين. خامساً وأخيراً، وهنا يأتي المقطع الأصعب من المهمة: قراءة كتاب عزمي بشارة «سوريا ودرب الآلام نحو الحرية»، وتلخيصه في ما لا يقل عن 5 صفحات. تسلمت الملف، ونظرت في عيني الأمير، فإذا بموسيقى عسكرية حماسية تنطلق من الغرفة، لينفتح بعدها الباب، وتدخل مجموعة من حرس التشريفات وبيد أحدهم وساماً، وفي يد آخر حقيبة سامسونايت سوداء، عرفت فوراً أن بداخلها المعلوم. أما بقية حرس التشريفات فكانوا يحملون عبوات الغاز (12 كيلوغرام)، وكل قنينة فيها ساعة ونربيش، وصافحني الأمير وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لي: إن مصير الثورة السورية معلق عليك، وإن العملية التي كلفت بها، إذا ما نجحت، فإنها بلا ريب ستطيح بالرئيس السوري بشار الأسد، وسننتصر على السعودية في حربنا غير المعلنة معها. لا اخفي أن الدمعة خذلتني ونزلت من مقلتي، فمسحتها بطرف كمي، وقام الأمير بتقليدي وساماً حسناً، ثم تناول حقيبة السامسونايت وفتحها أمامي، وقال: هذا مبلغ بسيط، اعتبره هدية، وعندما تنفذ المهمة، ستحصل على حقيبتين من هذه وعلى شنطة سفر مليئة بالريالات. قلت له إنني افضل الدولار، فضحك للنكتة، وعانقني ثم طلب من الحرس أن يرافقوني، وقبل أن أخرج، استوقفني وقال: أمانة سلم لي على أحمد محسن، وقل له إن ملحق مونودوز يؤدي المطلوب منه تماماً لجهة ايهان نفسية الأمة. وعدته أن اوصل السلام إلى العميل الصديق أحمد، وحملت الحقيبة وخرجت. ثم تذكرت وأنا أهم بغلق الباب أنني لم آخذ معي عبوات الغاز التي بلغت اربعين عبوة، لكن احد الحرس قال لي إنها اصبحت في كميون سيسبقني إلى المنزل ويعمل عملاء محترفون لجهاز الاستخبارات القطري بتخبئتها في غرفة نومي.
المفارقة أنني خرجت من السيارة من الباب السابع عشر. وهو الأمر الذي لم اتوقعه ابداً، لأن هذا الباب بالتحديد مخصص لعملاء الدرجة الأولى. وتذكرت قولاً مأثوراً في هذا المجال، تشّ له بدني: «إذا كان اول الغيث قطرة فكيف إذا كان قطر!».