عند مرورك أمام أحد المحال في خان الخياطين في طرابلس* تلفتك «المانيكانات» التي تقاوم الزمن بصمت. هي جزء من صورة السوق القديمة في المدينة، التي تمنحها هويتها من خلال الزيّ العربي التقليدي الذي ترتديه: عباءات مزركشة المشالح، طرابيش حمراء وشروال.يحافظ صاحب المحل الحاج عدنان القطمة، ابن السادسة والسبعين من العمر، على هذه الحرفة التي ورثها عن والده، فيما واكب زملاؤه في المحال المجاورة الموضة العصرية في الثياب. ترى «آخر خياطي الزي العربي والشروال» يجلس وحيداً أمام ماكينته، حاملاً مقصه وقطعة الطباشير والمازورة.

هذه الصورة كانت في يوم من الأيام تعبّر عن واقع اجتماعي وثقافي، وكان كل الناس يقصدون الخياط لتفصيل القمباز والقميص والشروال، وكلّ حسب قدرته. أما اليوم، فقد أصبحت هذه الأزياء مطلوبة للزينة أو للأعمال الفنية. وهي قد لا تستمرّ، وخصوصاً أن القطمة يكرّر أنه الخياط الأخير للزي العربي في الخان. «أكثرية الخياطين، إما توفوا أو حوّلوا مهنتهم إلى مجالات أخرى. وهناك آخرون بات عملهم يقتصر على تقصير الملابس الجاهزة أو تضييقها، وهناك من أصبحت لديهم محال لبيع الملابس الجاهزة، فيما أقفل البعض محالهم وأجروها الى باعة الحمص والفول».
حاول القطمة أن يعلّم أولاده هذه الحرفة، لكن ابنه الذي تعلّمها استبدلها سريعاً مع اتخاذه قرار الزواج «بحث عن مهنة أخرى تؤمن له دخلاً يعيل أسرة. هذه المهنة كانت تشكل مصدر دخل ممتاز في السابق، ولكن مع تراجع الإقبال على الزي العربي أصبحت تستر ولا تغني».
يعيد القطمة أسباب الركود الذي يصيب المهن التقليدية إلى «امتناع السياح عن زيارة المدينة بفعل الأوضاع المتدهورة منذ سنوات». ويذكر أن هؤلاء «كانوا مصدر الدخل الأساسي، سواء كانوا مغتربين لبنانيين أو أجانب، فهم يحبون اقتناء القطع التراثية والفولكلورية كتلك التي كان يقتنيها آباؤهم أو الأقدمون».
المشكلة الثانية تتمثّل في «المنافسة الأجنبية للصناعة الحرفية اللبنانية، وبالتحديد السورية والتركية، التي غزت الأسواق المحلية بأسعار منخفضة. فالشروال الذي يتم تفصيله في بلادنا ثمنه مئة وعشرون ألف ليرة تقريباً، بينما المنافس السوري الشروال والقميص بخمسين ألفاً».
في السابق، عمل القطمة على تزويد فرقة كركلا بالملابس، لكن مع تقدمه بالسن، وبفعل الوقت الذي يستغرقه العمل اليدوي لم يعد قادراً على تأمين ملابس بكميات كبيرة، فـ«الهمة أصبحت قليلة».
يدرك القطمة جيداً أن حرفته ستنتهي برحيله عن الدنيا، لذا لا يخفي حزنه «لأن هذه الحرفة بعد موتي ستتوقف»، مؤكداً أنه سيستمر بها الى آخر أيام حياته، موضحاً أنه لا يعمل من أجل تأمين الربح «وإنما لأنني أحبها واعتدت عليها ولا يمكنني مفارقتها». حتى إنه يضع ماكينة الخياطة، التي يجالسها يومياً منذ ستين عاماً عندما بدأ بتعلم الحرفة على يدي والده، بمكانة زوجته. لذا تصنع القطع هنا بكثير من الحب والموهبة وليست كالآلة التي تتناسخ دون روح.
ويوجه القطمة حديثه إلى الدولة «التي لا تبذل أي جهد للحفاظ على تراثنا». كلّ ما تذكرته به الدولة، اتصال من وزارة السياحة، أجريت على أثره مقابلة معه نشرت في مجلة أجنحة الأرز.
هكذا هو مصير المهن الحرفية في بلادنا، ففي كل يوم نودع فيها حرفياً تسقط في ذاكرة النسيان أجزاء من ماضينا وتراثنا وهوية بلاد مهددة بالضياع.