على عجلة من أمره، جهّز محمد ملحم (37 سنة) أغراضه، بعدما ابتاع جزمة تمنع وصول الأوحال والمياه الى قدميه. أدار محرّك سيارته وانطلق مع أفراد أسرته، من مكان اقامته في الضاحية الجنوبية باتجاه بلدته مجدل سلم (مرجعيون). منذ سمع أن المطر سيتوقف، وعد أطفاله الثلاثة برحلة ممتعة في الحقول الموحلة لقطاف الفطر البرّي «قبل أن ينتهي موسمه، أو قبل أن يقطفه أبناء المنطقة الذين يتنافسون كعادتهم على جمع أكبر كمية ممكنة منه».

لكن ملحم لم يستطع سباق أبناء بلدته المقيمين. كان الكثيرون منهم قد جمع غلّته في أكياس النايلون بعدما انتشروا في الأراضي الزراعية وراحوا يبحثون عن الفطر كمن يفتش على كنز.
إنه موسم الفطر البرّي، الذي يبدو أنه يجمع الجميع، كباراً وصغار، من دون تمييز بين غنيّ وفقير. يجد هؤلاء في هذا الموسم ملاذاً لهم، للتنزّه والترفيه والرياضة، إضافة الى قطاف ما تيسّر لهم من الفطر الذي يعدّه الأهالي من المأكولات اللذيذة. حتى أنّ بعض الفقراء يعتمد عليه في الرزق، فينتظر خليل ترمس (12 سنة) عطلة الأسبوع ليغادر صباحاً الى الحقول ويعود مساءً محمّلاً بأكياس الفطر التي يبيعها لبعض التجّار. يزيد سعر كيلو الفطر على 6000 ليرة، يقول ترمس.
على بعد مسافة قليلة من خليل، كان المقاول أحمد حسين (53 سنة) يبحث بدوره مع ولده الصغير فادي عن الفطر الأبيض. يقول: «كلّ أنواع الفطر الأخرى لا تلفت انتباهي». برأيه «الأمر لا يتعلق بكمية الفطر الذي نهوى قطافه، لأنني أستطيع شراءه من الصبية المنتشرين في الحقول، كل ما يهمني هو هذه الرحلة الجميلة، وممارسة الرياضة اضافة الى منافسة زملائي في جمع أكبر كمية ممكنة». يذكر أحمد أن «المشكلة الآن تتعلق بانتشار المنازل في معظم أماكن المنطقة، فقد تدنت مساحات الأراضي البور وبات علينا أن نقصد الأماكن البعيدة من البلدة». ويشير الى أن «عادة قطاف الفطر والهليون والأعشاب البرية قديمة جداً، وكان المزارعون يعتمدون عليها في اطعام أولادهم، لكن يبدو أنها باتت طريقة للتسلية والترفيه بعد توقف المطر»، مذكراً بضرورة تنبيه الأهالي على أنواع الفطر السامة، اضافة الى أماكن انتشار القنابل العنقودية، التي لا يزال الكثير منها في مناطق مختلفة.
عدد من شبان المنطقة يحملون بنادق الصيد أثناء رحلاتهم في البحث عن الفطر والهليون، ويجد كفاح عقيقة ( شقرا) في ذلك «متنفّساً له وفرصة للقيام بالرياضة الجسديّة بسبب السير الطويل في الحقول، فالأمر وان كان شاقّاً ومتعباً أحياناً، فهو متعة بحدّ ذاته، والأكثر متعة أن تأتي الى المنزل محمّلاً بأكياس الفطر اللذيذ، الذي يكون فرصة أيضاً لقضاء سهرة أمام موقد الحطب لشواء الفطر مع الأسرة». وينصح أحد أطباء المنطقة «بأهمية أكل الفطور الطازجة نظراً إلى النسبة العالية من فيتامين D ولأن الفطور المعلبة تفقد كمية كبيرة من الفيتامينات والبروتين والكالسيوم اضافة الى كونه يعمل أيضاً على تقوية جهاز المناعة».
في هذا الوقت من السنة ينمو نبات الهليون البري أيضاً في الحقول البور وبين الأعشاب، لا سيما في الأودية والمناطقة الأكثر دفئاً، كما هي الحال في الأودية القريبة من نهر الليطاني، وحقول الزيتون المنتشرة بين المنازل. فتزداد أعداد بسطات الهليون على الطرق العامة، بخاصة طريق عام قعقعية الجسر- النبطية، وهو المكان الذي أصبح معروفاً في المنطقة، الذي تباع فيه نبتة الهليون الخضراء الطريّة، وبأسعار معقولة نسبياً، نظراً إلى كثرة عدد الباعة المتجولين، الذين يكونون عادة من النساء أو الأطفال الفقراء.
وتعتبر مريم حلاوي (45 سنة)، من بلدة قعقعية الجسر، الأكثر شهرة في بيع هذه النبتة، بعدما فقدت الجزء السفلي من رجلها اليمنى عام 2007 جرّاء انفجار قنبلة عنقودية أثناء قيامها بعملها في قطف الهليون البرّي من أحد الجبال المطلّة على النهر. تقول إن «عدداً كبيراً من الزبائن يأتون من مناطق مختلفة لشراء الهليون البرّي، نظراً إلى طعمه اللذيذ وفوائده المتعددة، رغم أن سعر 10 عيدان منه فقط يزيد على ثلاثة آلاف ليرة». واللاّفت أنه رغم سهولة زراعة هذه النبتة المفيدة، فان عدداً قليلاً من المزارعين يهتمون بزراعتها، رغم زيادة الطلب عليها، كما يقول المزارع حسن قوصان، من بلدة فرون (بنت جبيل)، مشيراً الى أن «هذا النوع من الزراعة المفيدة يصلح في أراضي المنطقة، ويمكن لوزارة الزراعة أن تهتم بتوعية المزارعين لزراعته كونه يحقق دخلاً جيداً، لأن أسعاره مرتفعة، ويمكن تصديره الى الخارج».
يذكر أنه من أهم فوائد الهليون المعروفة هي أنه مضادّ للالتهابات، وغني بالمعادن والألياف التي تساعد في تخفيض نسبة الدهون في الدم، وهو أساسي لتنظيم مستوى السكر في الدم، اضافة الى أنه مدرّ للبول وفاتح للشهية، ومسكّن للقلب، لذا يعالج به حصر البول وأوجاع الكلى والاستسقاء واليرقان.
تجدر الإشارة إلى أن عدداً من أبناء المنطقة أصيبوا بجروح أو وافتهم المنية نتيجة انفجار القنابل العنقودية أثناء قطف النباتات البرية، من بينهم الجريح سلطان جمال مصطفى (30 سنة) من بلدة بيت ليف الذي جرّه العوز إلى البحث عن رزقه في الأودية والجبال.