تحرص أم محمد سرور على منع أولادها الخمسة من تدخين السجائر والنارجيلة، فهي تعلم مدى الأضرار الصحية التي يتعرض لها المدخنون. لكنها في الوقت عينه، كغيرها من أبناء قرى الجنوب، تحرص على زراعة أكبر عدد ممكن من شتول التبغ كل عام. فهذه الزراعة هي الوحيدة المضمونة، التي تساعدهم على العيش بطمأنينة لبعض الوقت، كما تقول أم محمد. تؤكد أن «لا بديل في هذه المنطقة عن زراعة التبغ، إن صمود ما تبقى من الأهالي في المنطقة مرتبط بأمرين لا ثالث لهما، سواعد المقاومين وبسالتهم، وسواعد المزارعين الذين يتناوبون على زراعة شتول التبغ المرة، جيلاً بعد جيل».
تعتاش 25 ألف أسرة في لبنان اليوم من زراعة التبغ، بحسب مصدر في مؤسسة الريجي، بينهم حوالى 17 ألف أسرة في جنوب لبنان، أي المنطقة التي انطلقت فيها زراعة التبغ لأول مرة في لبنان، منذ عهد الأمير فخر الدين. والجدير ذكره أن عدد مزارعي التبغ في لبنان يزيد على 24 ألف مزارع، وتغطي زراعة التبغ مساحة 91 ألف دونم، في حين يبلغ الإنتاج الإجمالي حوالى 11 ألف كلغ. وتتركز زراعة التبغ في جنوب لبنان منذ عشرات السنين. وترعاها إدارة التبغ والتنباك «الريجي»، وهي وكالة حكومية شبه مستقلة، تأسست عام 1935 بطلب من الانتداب الفرنسي لتنظيم مزارع التبغ في لبنان ومراقبة استيراد التبغ. وتوفر الحكومة دعماً كبيراً لهذه الزراعة بكلفة سنوية تصل إلى 73.3 مليون دولار أميركي.
ويشير المزارع حسن مراد الى أن «هذه الزراعة هي التي ميزت بعض القرى والبلدات عن غيرها، من حيث طبيعة الحياة، ونمط العيش، وعدد المقيمين، الذين وجدوا من زراعة التبغ فرصة للبقاء»، ويلفت إلى أن «البلدات الأكثر كثافة للسكان المقيمين في منطقة بنت جبيل، هي البلدات التي يعتاش أبناؤها من زراعة التبغ. على سبيل المثال، بلدة عين ابل التي لا يزرع أبناؤها التبغ أصبحت فارغة من الأهالي، ولا يعيش فيها اليوم أكثر من 1500 نسمة، بينما بلدة رميش الزراعية المجاورة يعيش فيها اليوم أكثر من 7000 نسمة،
صنّف إنتاج التبغ
في المرتبة السادسة من حجم المبيعات المحلية



كما هي الحال في بلدة عيترون». ويؤكد على أن «دعم هذه الزراعة وضمان تصريف انتاجها هو السبب الذي أدى الى زيادة عدد المزارعين» متسائلاً عن «السبب الذي يمنع الدولة من دعم الزراعات الأخرى وتأمين تصريف انتاجها، وبيعه، لأن ذلك قد يساهم في محاربة آفة التدخين، وتسهيل أمور المزارعين الذين ترهقهم زراعة التبغ التي تتطلب وقتاً وجهداً كبيراً طيلة أيام السنة».
يذكر أن بلدة عيترون تنتج وحدها سنوياً حوالى 14 ألف طرد من التبغ، أي ما يعادل 350 ألف كلغ، وبلدة رميش حوالى 320 ألف كلغ، وكذلك بلدة عيتا الشعب، وهي القرى الأكثر إنتاجاً للتبغ في منطقة بنت جبيل. كما أن معظم مزارعي التبغ يعتمدون بشكل كلّي على هذه الزراعة، ولا يستفيدون من أي ضمانات صحية أو علاجية، رغم مطالباتهم المتكررة بتسجيلهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
دعم الدولة لزراعة التبغ لا يعني أن الدولة لا تحقق أرباحاً من هذه الزراعة، اذ تم تصنيف إنتاج التبغ في لبنان في المرتبة السادسة من حجم المبيعات المحلية، أما موازنة الريجي فتقدر بـ2,55% من حجم موازنة الدولة، غير أن الأسعار المعتمدة في شراء التبغ من المزارعين من قبل الريجي، لا تزال متدنية نسبة الى غلاء المعيشة، اذ يجري شراء كيلوغرام التبغ اليوم بمبلغ 12.500 ليرة فقط، أي بزيادة الف ليرة فقط عما كان عليه السعر في عام 1996. لكن ادارة الريجي تحرص على دعم هذه الزراعة بطرق أخرى، من خلال تكريم بعض المزارعين وتقديم بعض الآلات والمعدات لهم، إضافة الى تأهيل بعض البرك الزراعية.
قبل نحو شهرين، بدأ مزارعو التبغ يتسابقون على تسليم الأوراق السمراء المكدّسة في أكياس من «الخيش» بعد أشهر طويلة من العمل في حقولهم تحت أشعة الشمس الحارقة. لكن ما يجنونه من «شيكات» يتم توزيعه عادة على المصارف وأصحاب المحال التجارية والمدارس لسداد ديونهم السابقة. لأن «المزارعين سبق لهم ان استدانوا ريثما يحين موعد التسليم» كما يقول المزارع محمد غشام، من بلدة يارون، الذي كان قد استدان من أحد المصارف مبلغ 46 مليون ليرة ليسدّ رمق عيش عائلته طيلة العام المنصرم. ويقول أحد الموظفين العاملين في «الريجي» إن «بعض الزراعات البديلة قد تنتج أكثر بكثير من زراعة التبغ، وبجهد أقل بكثير، كما حصل بالنسبة لزراعة الزعتر البلدي وزراعة الصحارى في غير موسمها، لكن ذلك يحتاج الى الدعم وضمان تصريف الإنتاج عبر جهاز موثوق يسعى الى التواصل مع الخارج لضمان هذا التصريف».