تونس | قبل الكتابة عن المرأة التونسيّة، فكرت في قصيدة محمود درويش «الجميلات هن القويات، يأس يضيء ولا يحترق»، ثم راحت تمر أمامي صور نساء تونس وصباياها وهن يتصدرن أغلب مشاهد الثورة التونسية، التي جابت العالم كثيراً. ثم فكرت في صورة المرأة الريفية العجوز بلباسها التقليدي التي تمسك حجراً في محافظة «قفصة» أيام انطلاق انتفاضة «الحوض المنجمي» ضد نظام بن علي عام 2008. بعدها، تأملت مشهد الزعيم اليساري حمه الهمامي (المرشح لرئاسة البلاد) وهو يحتضن ويقبل زوجته الحقوقية راضية النصراوي أمام آلاف من أنصاره. ظننتني سأنطلق في الكتابة من المشهد الأخير، فقفزت أمامي جثث «الإرهابيات» القتيلات ملتحفات بسواد نقابهن في وادي الليل، الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية، منذ أسابيع قليلة، فعدتُ إلى حيرتي. اعترضني شعارٌ بدا نشازاً في كل الشعارات وصور البروفيلات التي غزت صفحات الفايسبوك، وقد كُتب بخط يدوي بسيط وباللونين الأحمر والأبيض أسفل علم تونس ... «أنا مريم».
«أنا مريم»، شعار أخذ في الانتشار من جديد على مواقع التواصل الاجتماعي وعند المستخدمين التونسيين أخيراً، رغم طغيان الاهتمام المنصبّ على الانتخابات الرئاسية. مريم هو الاسم المستعار للفتاة التي تداول على اغتصابها الأعوان «أمن» في خريف عام 2012، والقضية لم يبت فيها إلى اليوم بشكل نهائي ولا تزال أمام القضاء التونسي، بعد أن استأنفت هيئة الدفاع الحكم القاضي بسجن المتهمين بالاغتصاب لمدة 7 سنوات بتهمة «مواقعة انثى دون رضاها»، فحكم عليهم ثانية بـ15 سنة سجنا نافذة في 20 تشرين الثاني 2014، أي منذ أيام قليلة. يستوقفني عنوان التهمة أيضاً.

«مريم» هي المثقفة العادية، ابنة العاصمة التونسية. درست وتواصل دراستها الجامعية. عشقت وعُشقت وكانت في لحظة حب أو خصام أو عتاب مع حبيبها في سيارة في ضاحية العاصمة حين توقفت بقربهم، سيارة «أمن» يستقلها ثلاثة أعوان، ولم يتوقفوا عند إجراءات طلب هويتيهما، بل تولى الأول إبعاد الحبيب لارتشائه، وتولى الاثنان الباقيان اغتصاب مريم بدماء باردة... كيف يمكن لمريم أن تحدثنا عن المرأة التونسية في ما حدث معها؟ مريم تصيبنا بالخجل.
كيف يمكن لمريم أن تحدثنا عن المرأة التونسية في ما حدث معها؟ مريم تصيبنا بالخجل


توقعت أن تحدثنا عن أمها التي ساندتها ووقفت معها ولم تخش «الفضيحة»، ولم تصرخ فيها لتسكتها صوناً للعرض. وعن الحقوقيات والجامعيات اللاتي ساندنها، وكوّن لجان دفاع ومساندة، ولم يمللن طول الإجراءات وتعقد شعاب القضية. وعن التلميذات والطالبات اللاتي شاركن في وقفات احتجاجية لمساندتها من دون أن يخفن تشويهاً أو تعييراً، وعن الأمهات اللاتي تخيلنها ابنة إحداهن وضربن بأياديهن على صدورهن قائلات: «يا حليلي على بنيتي» (تفجع باللهجة التونسية). وربما عن تلك العجوز بوشمها البربري و»مليتها» (لباس تونسي تقليدي) التي فقدت لونها. تجلس القرفصاء أمام بيتها، ممسكة سبحتها وتدعو على المعتدين بالعذاب الأليم.
وقد تحدثنا بعين دامعة على من علّقن بلا خجل بكلمة «تستاهل وعلى نفسها جنت براقش». وعمّن وجدن تبريراً للمعتدين وعذرن فحولتهم ولم يرأفن لأنوثة مريم المهدورة... وقد تحدثنا عّمن استباحوا ألمها، فأدخلوا إلى قصتها الأساطير والإشاعات، وهؤلاء موجودون في كل مكان. في ساحات الجامعات وفي الطريق وفي الأسواق وفي المستشفى وفي المصنع وعلى الشاطئ وفي المقهى والعلب الليلية وفي الطريق إلى الصلاة. ستحدثنا عنهنّ جميعاً لأنها عرفتهن جميعاً. «التونسيات هن القويات يا صديقي».