يروي عادل عسيران في لقاء غير مؤرّخ مع الإعلامية ليلى رستم التفاصيل التي أدّت إلى اعتقال رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء معه في قلعة راشيا. يقول «عندما تشكّلت الحكومة في عام 1943، وضعت برنامجاً وزارياً يتضمّن تعديل الدستور وتحريره من المواد التي تعطي الانتداب صلاحيّة التدخّل في الشّؤون اللّبنانية. تقدّمنا بالبيان الوزاري وحصلنا على الثّقة وبدأنا نمارس الحكم، اجتمعنا مرّة (رياض الصلح وسليم تقلا وحبيب أبو شهلا وكميل شمعون) في بيت الشيخ بشارة الخوري بدعوة منه، وكان المفوّض السامي الفرنسي جان هلّلو موجوداً. حصل سجال بين هلّلو وبين الشيخ بشارة.
قال له الشيخ بشارة «متى تفكرون بتسليمنا المصالح المشتركة؟». يعني مصالح الجمارك باعتبار هذا المورد المالي الرئيسي في ذلك الحين. فأجابه «عندما تضعون معاهدة بيننا وبينكم وتنظّمون علاقاتنا». سأله: «كيف يمكن أن نضع معاهدة معكم، وأنتم تفتقرون إلى حكومة شرعيّة منبثقة من قِبَل الشعب الفرنسي؟».
مضت السهرة في هذا النقاش، وتبيّن أن لا استعداد عند هلّلو والحكومة الفرنسية لمنحنا صلاحيات. بعد يومين أو ثلاثة، قررنا أنه يجب أن نقدّم مشروع تعديل الدستور. في المقابل، أخبر هلّلو الجنرال ديغول بما حصل، واتفقا على صيغة لم نعرفها. ومن مصر، اتصل هلّلو بالمفوضية العامة وطلب منها إبلاغ رئيس الجمهورية والحكومة أنه يحمل لنا عروضاً سخية من قِبَل الجنرال ديغول وتمنى عدم تعديل الدستور قبل عودته. مباشرة، دعانا الشيخ بشارة الخوري إلى مجلس وزراء طارئ عرض خلاله البرقية التي تختم بالقول «وفي حالة عدم قبولنا يحتفظون لأنفسهم بحقّ التّصرّف، يعني تهديد». وقال الشيخ بشارة إنه رفض التهديد «نحن أداة التهديد ما منقبلها، وهم وضعوها في مذكّرة. بقى بهذا الوضع شو بتريدوا يا شباب؟» (...) اتفق الجميع على الرفض، قرّر بعدها الشيخ بشارة الرفض. وكنّا قد اتّفقنا على الطلب من رئيس المجلس النيابي بضرورة الاستعجال في تعيين جلسة لأجل تعديل الدستور. وقد حصلت الجلسة (في 7 تشرين الثاني) بجوّ من الحماسة الوطنية المنقطعة النّظير، وفي ثلاث دقائق تعدّل الدستور وانتهى المشكل.
عبد الحميد كرامي: كنت عرياناً
وابن شمعون كساني


نسّقت حكومة بشامون مع البريطانيين للضغط على الفرنسيين

بعد ثلاثة أيام، كان الجنرال (البريطاني إدوارد) سبيرز قد أعدّ عشاء على شرف ملك يوغوسلافيا، وكان هلّلو مدعواً. يقول سبيرز لـ(الجنرال الفرنسي) «ينقل إليّ أنه ستحصل حوادث ضدّ الحكومة. لا أرى أن من الحكمة حصول شيء، نحن في أيام حرب والجيش الإنكليزي سيضطر إلى اتخاذ إجراءات». أجابه «لا، أنا أعدك بأنه لا يمكن أن يحصل شيء».
وقد وصل هذا التعهد، عبر وزير الخارجية آنذاك سليم تقلاً إلى الرئيس والوزراء، فخلدوا إلى النوم كلّ في بيته مطمئناً.
عند الساعة الثالثة من فجر 11 تشرين الثاني، استيقظ الشيخ بشارة الخوري، كما يروي في مذكراته، على ضجة قوية أمام غرفة نومه «قمت وفتحت الباب لأرى ما يجري، فوقعت عيناي على جنود بحريين فرنسيين مسلحين بالبنادق وبرؤوسها الحراب، وبعض جنود سود (سنغاليين) مسلحين على الشكل عينه وصاحوا بي قائلين: «اخرج. اخرج... بسرعة».
كان المنزل مطوّقاً بخمسين جندياً فرنسياً، لم يترددوا في قتل المسؤول عن بوابة الحرس.
في الوقت نفسه، قرع باب منزل رئيس الوزراء رياض الصلح. وسمعت الخادمة صوتاً يقول: «افتحي، أنا أحمد». فتحت الخادمة زجاج الباب، فرأت أشخاصاً غرباء. سارعت لتبلغ صاحب البيت، في وقت كان فيه «الضيوف» يخلعون باب غرفة النوم، ويشهرون مسدساتهم فوق سرير الصلح. انتهى المشهد بعد خمس دقائق فقط، كانت كافية ليلبس الصلح ثيابه، ويتوجه إلى سيارة بانتظاره.
وعند الساعة الرابعة، اقتحم الفرنسيون منزل عائلة النائب عبد الحميد كرامي الذي لم يكن موجوداً في البيت في طرابلس. هددوا النساء بقتل ابنه عمر، ابن الأربع سنوات في حينه، إذا لم يرشدوهم إلى مكانه. لحقوا به إلى مرياطة، وحملوه بثياب نومه الرقيقة، مكشوف الرأس ولم يسمحوا له بارتداء ثيابه. ويروي كرامي في مذكراته أنه بقي خمسة أيام في راشيا من دون طعام، غير ماء وعنب، لأن وجبة أسنانه كانت في ضيافة الضباط. وظل على هذه الحال إلى أن وجد كميل شمعون ثوباً على قياس عبد الحميد، فكساه، وقد كافأ عبد الحميد شمعون بأن أقام له احتفالاً بعد الإفراج وقال عنه: «كنت عرياناً وابن شمعون كساني».
في السجن، يصف عسيران الحالة على الشكل الآتي: «ما إن وصلت الى السجن حتى وجدت سليم تقلا وكميل شمعون هناك. سليم تقلا جالس في السرير يفكّر ويقلّب عينيه. صار يقول لي: لحقتنا رفض رفض حتّى وصّلتنا لراشيا، قعود لبعد الحرب». أنا صرت أضحك. كميل شمعون كان يروح ويجي بهل قاووش وحاطط إيده بجيبته ويقول: «هل ديّوسين هوذي قرايبنا الإنكليز بكرة يمكن ما بحسّوش فينا لبعد 6 أشهر». بقيت ساكتاً. سألني سليم تقلا: «ما بك نحن نحكي وإنت ولا كلمة» قلت له: «أعتقد أن نبقى هنا من ثمانية إلى عشرة أيام، ويعود بعدها رئيس الجمهورية رئيس جمهورية ورئيس الوزارة رئيس وزارة وكل وزير بيرجع لوزارته». بعد ثلاثة أيام «ظهر أنه لا بدّ من خروجنا، وبدأوا يسرّبون لنا الجرائد والأخبار وبدأ يوصلنا كلّ شيء».
بعد 11 يوماً،
في هذه الاثناء، عمّت التظاهرات كلّ لبنان. وارتكب الفرنسيون جرائم في أكثر من منطقة. ففي طرابلس، نظم طلاب المدارس تظاهرة أطلقت خلالها النيران على التلاميذ، فسقط 14 شهيداً وأكثر من 25 جريحاً. هم غير شهيد الاستقلال «الوحيد» سعيد فخر الدين، الذي سقط في بشامون.
فقد كان الوزيران المتبقيان في الحكومة، حبيب أبو شهلا والمير مجيد إرسلان قد أعلنا من البيت الذي لجآ إليه في بشامون أنهما يمثلان الحكومة الشرعية في البلاد. وكانا على اتصال دائم مع الجنرال سبيرز يستشيرونه في كل شيء، كما صرح بذلك منير تقي الدين الذي انضم الى حكومة بشامون. وبفعل الضغوط التي مارستها بريطانيا على الفرنسيين، اضطر هؤلاء إلى تغيير سياستهم. وفي 17 تشرين الثاني وصل الجنرال كاترو موفداً من قبل الجنرال ديغول لمعالجة الموقف، فأقال هللو من منصبه.
مع الإفراج عن المعتقلين، في 22 تشرين الثاني 1943، أعلن عيد الاستقلال. ويقول كميل شمعون: «دخلنا دخول الظافرين. على طول الطريق المؤدية الى بيروت، أقيمت الزينات وخرج الشعب الى الشارع يردّد الهتافات الحماسية. أما في العاصمة، فساد الجنون التام. نزل سكان بيروت ومن انضمّ إليهم من أهل القرى الى ساحة الشهداء بالآلاف، حيث أعدّوا لنا استقبال الأبطال، بحيث لم تشهد البلاد له مثيلاً».