في الثّالث عشر من تشرين الثّاني، أي قبل أيام قليلة، أحيا أهل عامودا، القرية السوريّة التي تتشارك الحدود مع تركيا، ذكرى أحد أفظع جرائم التّاريخ الحديث. عامودا التي اعتادت مواجهة الجغرافيا والحقد عبر تلالها التّاريخيّة الثّلاث: عامودا، موزان، وشاغربازار، تضاف اليها ثلاثة آلاف سنة من حضارات استقرّت داخلها حتى 1960، حين حصل الحريق.
كان خريفاً. يومذاك، فشل دهام حسن، الطالب الكردي، في شراء بطاقة لحضور فيلم في إحدى أوائل صالات السينما في الشّرق الأوسط «سينما شهرزاد في عامودا». يتذكر دهام: «كان بعض المكلّفين يدورون بدعواتهم لشراء تذاكر لفيلم عن الثّورة يعود ريعه لثورة الشّعب الجزائري ضدّ الاستعمار».
لم تكن قاعة العرض تستوعب عدد البطاقات التي بيعت. وفي الأساس، لم تكن السينما بحدّ ذاتها مكاناً آمناً، فالمبنى كان صغيراً، حيطانه من طين، وسيّج بستائر صناعيّة من الدّاخل كما من الخارج. وفي السقف كانت أعمدة سكك القطار الحديديّة مدعمة بالأخشاب، وتستكين باحة السّينما في الأسفل. وخلق باب غرفة العرض يقبع محرّك كان يعمل بلا توقّف.
امتلأت بعض شوارع عامودا، ذات الأكثريّة الكرديّة الساحقة، حشوداً، بل جماهيراً، أكثرهم من الأطفال.

كانوا يحتفلون بالذهاب إلى السّينما، بينما جلس الكثير من رفاقهم على شرفات منازلهم خائبين ــ ربّما محظوظين كما سنكتشف ــ ببقائهم بعيداً من السّينما. لقد احترقت في اللّيل نفسه لأسباب تقنيّة. أكثر من 280 طفل احترقوا لأسباب تقنيّة. أكثر من مئتي عائلة منكوبة، هذا غير من نجا وتشوّه. أكثر من خمسمئة طفل يجلسون في قاعة تتّسع لمئتيّ شخص ذات مخرج وحيد احترقوا. كانوا قوميين أكراد مناهضين لسلطات الوحدة وسياسات جمال عبد الناصر «التوسّعية» كما يسمّيها الملّا أحمد نامي، أوّل موثّقي الحادثة، في كتابه «حريق سينما عامودا» الذي كتبه بالكرديّة بعد الحادثة بوقت قصير.
ربّما، كما رجح كثيرون، كان ارتبط الحريق بقرار عامودا الشّعبي بالانفصال عن السياسة البائسة التي عاثها النظام السياسي العربي، والعثماني قبله. ربّما، أيضاً، كان بسبب مقاومتهم للقصف الفرنسي في 1936 ورفضهم الهجرة الى تركيا. أو ربّما كان عطلاً. لا أحد يعلم! أحد النّاجين من الحادثة، من غير الذّاهبين، يصف أحد المشاهد قائلاً: «وفي صبيحة اليوم التّالي، كان هناك وفد من المعزّين ومجموعات يساريّة وجّهت اتهامات للأنظمة العربيّة بالتواطؤ وسمحوا لهم ولم يردعوهم ولم يفعلوا شيئاً...» حديث يذكّر بمقابلات القنوات السوريّة الموالية للنظام، في بداية الثّورة، حين أجرت مقابلة مع أحد المعتقلين ليصرّح بسورياليّة جامحة، أنّ الشّباب «قدموا الينا وطلبوا منّا بكلّ محبّة ألا نشارك بالتّظاهرات، ولم يفعلوا لنا شيئاً».
في أحد أفلام المخرج كوينتين تارانتينو، تقوم عصابة مسلّحة من اليهود بالثّأر من الألمان بمعاونة ابنة إحدى العائلات اليهوديّة التي قتلها النازييّن في فرنسا. اقتضى المخطّط، في الفيلم، احراق السينما نت مجموعة ضبّاط نازيين، أثناء مشاهدتهم فيلماً عن بطولاتهم المأثورة. وفي «انغلوريوس باستردز» لتارانتينو، ينجح المخطّط كما سبق له أن نجح ــ ربما ــ في عامودا قبل خمسين عاماً. احترقت سينما «شهرزاد» في مشهد يميل الى الكوميديا أكثر منه للعنف. فظاعة المشهد في عامودا تنزع عن الحادثة صفة الثأر. ورّغم اختلاف تفاصيل الواقعتين، بين الفيلم التارانتينوي وعامودا، فإن للقصة الأخيرة أبعاداً هوليووديّة. ما زالت حقوقهم سليبة، في أن يصيروا مواطنين ضمن دولة تحترم توجهاتهم ومجموع ثقافاتهم وعاداتهم من اللّغة مروراً بالموسيقى الى تقرير مصيرهم، الذي هو حقّ مقدّس للشّعوب، وهذا ما لم يفعله النّظامين السّوري والتّركي.
ما بين صناعة الأفلام ومشهديّة سينما عامودا، يظهر مسلّحو «داعش»، لمباغتة الجميع في عين العرب، كوباني سابقاً. مشهد سينمائي آخر يضاف الى التّاريخ الكردي. كوباني، أي «النّبع» بالكرديّة، صالحة لدخول عالم السّينما، كما سبقتها رفيقتها عامودا، ولكن هذه المرّة الأكراد هم من سيكتبون تفاصيل الأحداث، ومن دون إخراج هوليوودي، حيث يخوضون معركتين في المشهد الأخير، فينتزعون حريّتهم من طرفين اثنين؛ قطبا المعركة: «داعش» و النّظام.