كأنهم علقوا وجهه لتوهم. هناك، في باب التبانة التي تزدحم جدران شوارعها بصور شباب سموهم «شهداء»، كان وجه ذلك الشاب العشريني دافئاً. كأن الشمس لم تمسّ وجنتيه النضرتين ولا قميصه الأسود. كانت بصمات اليد التي علقت وجهه ظاهرة عند الأطراف، عكس صور الآخرين التي محت الشمس تفاصيلها. في باب التبانة، التي اختنقت بصور المنتهين بحروب عبثية، يسهل معرفة من مات لتوه. وهذا ليس تمريناً صعباً في الحي الذي اعتاد أهله أن يروا كل يوم وجهاً جديداً معلّقاً على جدران بيوتهم.
هنا، في المكان نفسه، قبل سنواتٍ كثيرة من اعتياد الموت في الحي، كانت تسوّق على الجدران نفسها ملصقات المسرحيات والدورات التدريبية التي كانت تقام في «معهد التبانة للفنون المسرحية». كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، عندما كان للتبانة معهد ثقافي... قبل أن يزيله «حزب التوحيد» في حربه على «الفجور» ليقيم مكانه «محوراً» لتخريج المقاتلين.
على الجدران نفسها أيضاً، كان أصحاب صالات «السيلما» ـ باللهجة الطرابلسية ـ يسوقون للأفلام المقرر عرضها. العابر في تلك الفترة الزمنية يتذكر جيداً تلك الأوراق الصفراء التي تحمل صور الممثلين، إضافة إلى تاريخ العرض وأسعار البطاقات. وعلى «هوا» ذاكرة العم ابراهيم ـ كما ينادونه في السوق العتيق ـ كانت أسعار البطاقات «تحدد غالباً بـ65 قرشاً للجالسين على البالكون وليرة وربع للجالسين في الصالة». وأكثر ما كان يثير الضحك في الملصق هو الملاحظات التي كانت تذيّل آخره، ومنها «ملاحظة الإدارة بغض النظر عن الأولاد حفاظاً على راحة الزبائن أو الملاحظة التي ترجو من الزبائن الكرام دفع قيمة التذكرة تامة نظراً لقلة العملة الصغيرة». كانت بسيطة «مش مفزلكة»، تشبه تماماً بساطة أهل المدينة في تلك الفترة. يتابع العم «كان في شي مهضوم وأكثر حميمية، خصوصاً عندما يقف موزع الإعلانات مردداً عبارته الشهيرة: عجل يا شاطر في غيرك على الباب ناطر». أما في فترة العرض، فيتذكر الرجل أنه «كانت تتخللها استراحتان، يمر خلالهما صبي بين الصفوف وينادي على بضاعته من عصير ومأكولات خفيفة». اليوم، اختفى الصبي، لكن العرض ما زال متواصلاً. ولا أحد يعرف ما إذا كان هذا الصغير قد صار مقاتلاً. أما أصحاب الصالات «فكانوا يتنافسون في ما بينهم للحصول على حصرية عرض الفيلم الأكثر حداثة والقبضاي من كان يوقع العقد قبل غيره». على الأرجح، انحدر تعريف «القبضاي» إلى درك مأسوي.
كانت للسينما في العاصمة الثانية مكانة فقد كانت طقساً لا يفوته أحد هناك ولا الآتين من المناطق البعيدة


لا يوجد في طرابلس سوى صالة واحدة ولـ«حرب السنتين» الدور الأكبر في ذلك


فيما مضى تسابقت صالات مثل الريفولي والكابيتول والروكسي للحصول على امتياز عرض أفلام عربية ومصرية حديثة آنذاك، من خلال توقيع عقود مع الشركات المسؤولة عن تسويق الأفلام في العاصمة بيروت، أما صالات الكولورادو وبالاس والمتروبول والأوبرا فتنافست على عرض الأفلام الرومانسية والكلاسيكية. واليوم، يتحسر العم ابراهيم ويسأل: على ماذا نتسابق الآن؟
كانت للسينما في العاصمة الثانية مكانة. فقد كانت طقساً لا يفوته أحد هناك ولا الآتين من المناطق البعيدة، خصوصاً أيام الآحاد والأعياد، حيث كانت الطوابير تصطف أمام النافذة الصغيرة للفوز ببطاقة. ويذكر العم أنه في بعض الأحيان كان طول الصف الذي يقف فيه الناس لإنتظار دورهم، يمتد من باب السينما إلى الطريق العام، ليعرقل أحياناً حركة السيارات. وكانت تعلو صرخات المارة: «شو في مجاعة! ولا عم يوزعوا خبز ببلاش». لكن، سرعان ما كان يتفهم الجميع: إنها سينما طرابلس.
اليوم، لم يعد يوجد في طرابلس سوى صالة سينما واحدة. وكان لـ«حرب السنتين» الدور الأكبر في ذلك. أما تهاوي «السيلما» الطرابلسية فقد جاء بالتتابع، فمع ظهور التلفزيون والشاشة الملونة وأقراص الفيديو، واستخدام أقنية البث الفضائي أصيب عالم «سينما طرابلس» بما يشبه الضربة القاضية، اضطر أصحاب الصالات في بداية الأمر إلى إلغاء العروض المسائية، فأخذت السينما المحلية بالتراجع وتقلص عدد روادها. وتزامن هذا مع الأجواء السياسية التي عقدت العزم على إهمال المدينة من كل النواحي، وتحويل الثقافة إلى ترف. استسلم الطرابلسيون لبرقية الرحيل الثقافي، ونعوا الفن السابع في مدينتهم، الذي لم يبق منه شيء سوى أمجاد حفظتها ذاكرة «شباب» الستينيات... ولوحات متهالكة بأسماء صالات العرض.
يخجل الطرابلسيون من وضع مدينتهم اليوم، ومنهم العم ابراهيم الذي يعتب على «أهلنا اللي راحوا وتركوا المدينة لهل زعران». لا يريد العم أن يعرف ماذا حلّ بجميع صالات العرض في طرابلس. يفضل أن يحتفظ في ذاكرته بالصور الجميلة. يعرف أن صالة واحدة بقيت. مع ذلك، يردّد أسماء تلك التي راحت، وكأنه يردد أسماء أطفاله: «الركس وروكسي وريفولي وكابيتول وكولورادو والحمراء وأوبرا وبالاس وأمبير وليدو والبيروكي والشرق وكليوباترا والكواكب وأوديون وسالفي وسارولا والأهرام وبيكاديلي وفيكتوريا وسميراميس وسلوى وبالاديوم والأندلس وماجيستيك والنجمة والأمير والقاهرة والمتروبول والرومانس وشهرزاد»... أسماء لم تعد موجودة إلا في ذاكرة العم ابراهيم.




البداية من ساحة التل

بدأ صعود السينما في طرابلس، أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي. يومها، انطلقت من ساحة التل، حيث عمد صاحب مقهى التل إلى تحويل جزء من المقهى إلى صالة عرض صيفية للأفلام المصرية. وقد استمر الحال على ما هو عليه حتى عام 1975. كذلك حوّل قسم من مسرح «الإنجا» أو «زهرة الفيحاء» إلى دار للسينما أطلق عليها اسم «الباروكة». وكانت قد بنيت على طراز المسارح الإيطالية المخصصة للعروض المسرحية والأوبرا. وتألفت من صالة وقاعات صغيرة للرواد من ذوي الثراء. وقد عرضت فيها الأفلام المصرية، وكانت مصدر الاستقطاب الأول لأهم مشاهير العالم العربي، كأم كلثوم مثلاً. وفي وقت لاحق، أنشئت صالة «الركس» في الشارع المؤدي من التل إلى السراي القديمة. ثم افتتحت «النجمة» و«الكواكب»، وعلى مقربة منهما في ساحة الحدادين أنشئت «الشرق». بعد ذلك، ظهرت «الأمير» وسينما «سميراميس» في حارة النجمة، وكلها صالات تخصصت بعرض الأفلام العربية لا سيما التي تعود إلى عقدي الأربعينيات والخمسينيات وأفلام «الأكشن».