في ملعب المدرسة اللبنانية في تريشفيل، ينادي المشرف محمد شري على الطلاب بلهجة لبنانية جنوبية. يجيبه الطلاب بلهجة مماثلة، إنما بلدغ الراء. يظهر تأثير اللغة الفرنسية المعتمدة في ساحل العاج، على الطلاب. لكنه يظهر جلياً على الطاقم التعليمي. معظم هؤلاء ولد أو نشأ هنا حتى اضمحلت اللغة العربية من يومياتهم. أزمة الارتباط بلبنان والعادات الاجتماعية والممارسات الدينية بسبب اللغة، دفعت بعض فعاليات الجالية إلى تأسيس مدارس تدخل اللغة العربية إلى المنهج العاجي المعتمد تدريسه في المدارس الرسمية والخاصة.
نهاية الثمانينيات، أنشأ فادي آصاف المدرسة اللبنانية في منطقة زون 4. في عام 1992، افتتحت بعثة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المؤسسة اللبنانية للتعليم في تريشفيل. المشرف العام عليها، إمام الجالية الشيخ عدنان زلغوط، أوضح أن الفعاليات تبرّعت بتمويل شراء عقار لبناء المدرسة وبنائها وتجهيزها. لم يكن الهدف تعليم اللغة العربية فحسب، بل فرض ضوابط وسلوكيات في الشكل والأداء على الطلاب الذين تستقبلهم من صفوف الحضانة حتى الثانوية، على الطريقة اللبنانية المحافظة. عندما أوفده المجلس عام 1981 «كانت نسبة التديّن قليلة بين اللبنانيين الذين كان كثير منهم منقاداً إلى السلوكيات الفرنسية والأفريقية، فضلاً عن غياب تام للغة العربية». يقول زلغوط إن «الجيل المؤسس في الجالية لم يملك وقتاً لتعليم أبنائه العربية أو عادات بيئته الأصلية». الأوائل اهتموا بتدبير شؤونهم وتأسيس شركاتهم. وفيما كانت معظم النساء تساعد أزواجهن في العمل، كان الأطفال ينشأون بين العاملات في الخدمة المنزلية ثم يلتحقون إما بالمدارس الوطنية أو الفرنسية. كانت هناك أزمة هوية تترسخ. فالتلميذ اللبناني كان يندمج مع جنسيات مختلفة، لا سيما في مدارس الإرساليات الفرنسية. مسؤولة قسم الروضات والابتدائي غادة زرقط نشأت منذ صغرها في مدرسة فرنسية كانت تضم طلاباً من 62 جنسية، منها اسرائيلية.
معظم التلامذة في المؤسسة اللبنانية أو كما تعرف بـ«مدرسة الشيخ»، جنوبيون. لكن هناك مغاربة وسوريون وجزائريون ومصريون. جميعهم تعلموا من مدرس الموسيقى العاجي كودو النشيد اللبناني، موسيقى وكلاماً. فيما سيلغي الموظفة العاجية، تشجعهم على التكلم باللهجة اللبنانية التي أتقنتها بعد إقامتها في لبنان مع عائلة عملت لديها. وفاء مروة أستاذة اللغة العربية، تتولى تنظيم الحفلات في عيدي الاستقلال والتحرير. تدرّب على رقص الدبكة وإنشاد الأغاني الوطنية. دراسة الماجستير التي تتابعها وفاء في إحدى جامعات لبنان، حضرت بحثاً حول «إشكالية تدريس اللغة العربية في بلاد الاغتراب»، ضمنته تجربتها في المؤسسة منذ 14 عاماً. وتتوقف عند الوعي المستجد لدى البعض الذي يمنع أولاده من التكلم بالفرنسية في المنزل أو مع من يفهم العربية. لكن كل ذلك لا يكفي لضبط إيقاع الهوية اللبنانية.
بات الأهل يمنعون أولادهم من التكلم بالفرنسية في المنزل

«أني نص لبناني نص إيفواري» يقول الطالب عزالدين، ابن باريش (قضاء صور) ولد ونشأ في أبيدجان، كسائر أقرانه، يرى في لبنان نزهة صيفية متعبة في معظم الأحيان. حسن ابن العباسية يستعرض أسباباً كثيرة ليضيق ذرعاً بالعيش في لبنان: الكهرباء والمياه المقطوعتان والأحداث الأمنية. لدى نور أسباب أخرى. يشعرها الآخرون بأنها غريبة. يكتشفون ذلك من لكنتها وتصرفاتها. تنزعج عندما تدخل دكان بلدتها لتشتري، فيضاعف صاحبه سعر البضاعة لأنها «من أفريقيا يعني معها مصاري». كثيرون يرفضون العودة للإقامة في لبنان لأنهم «اعتادوا على ساحل العاج التي يعرفون كل شيء فيها وعنها بخلاف لبنان». يشيرون إلى زميلتهم فاطمة هاشم الاستثنائية التي تود العودة إلى بلدتها الخرايب. أمضت العامين الماضيين في لبنان بسبب ظرف عائلي. وجدت ضالتها هناك بين أقاربها وبيئتها الخالصة، حتى كرهت العودة إلى أبيدجان التي نشأت فيها. تنتظر بلوغها المرحلة الجامعية لتعود بسبب عدم وجود جامعات هنا. إذ في مقابل المدارس اللبنانية الثلاث التي تحتضن ثلاثة آلاف طالب، تبرز ثغرة الجامعات اللبنانية. إلى جانب الجامعات الوطنية، هناك جامعة واحدة يديرها أستاذ لبناني جهاد جابر ملحقة بجامعة فرنسية. أسيل تحمل همّ تلك اللحظة. والدها يرفض إرسالها إلى لبنان بمفردها لتتابع دراستها الجامعية. أما نور، فجامعتها في لبنان مشروطة بعودة والدتها وأشقائها لمواكبتها. كثير من أصدقائها خسروا فرصة التعليم الجامعي لأنهن بنات أو بسبب عدم قدرة ذويهن المادية على إرسالهن إلى الخارج. أما الشبان، تنقص رغبة إكمال دراستهم أمام طموح تحصيل الأموال والمساهمة في إدارة شركات ذويهم.



الإرسالية المارونية



في عام 1956، افتتحت الإرسالية اللبنانية لقلب يسوع
المارونية في ساحل العاج، أولى المدارس اللبنانية والأجنبية، في أدجمي حيث كان تمركز إقامة اللبنانيين. المدرسة الملحقة بكنيسة، فتحت أبوابها لجميع الفئات. رئيس الإرسالية جان سرحال يشير إلى أنها خرجت أبرز فعاليات الجالية وعدد من المسؤولين العاجيين الذين أصبحوا وزراء ونواب ومدراء... وبرغم أنها اعتمدت المنهج الفرنسي، كانت تعلم اللغة العربية كمادة ثانوية. في السنوات الأخيرة، بدأ اللبنانيون ينتقلون من أدجمي وينقلون أبناءهم إلى مدارس أخرى. حالياً، جميع الطلاب من الأفارقة وبعض المهاجرين من مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا والجزائر، من الطبقة ما دون الوسط الذين يدفعون أقساطاً رمزية. وبرغم أن الكادر التعليمي إيفواري أيضاً، إلا أنهم يلتزمون بإحياء عيد الاستقلال اللبناني بتخصيص وقت للتعريف عنه. وسجل سرحال دعم الجالية لاستمرار عمل المدرسة وإنشاء ملعب رياضي مفتوح للعموم.