من خلف الزجاج السميك لـ«وجاق» الحطب، تتراقص ألسنة النار بهدوء فوق بقايا قطع حطب كبيرة من السنديان. على الوجاق «مصبّ» نحاسي ذهبي تتسرب منه رائحة القهوة العربية المرّة، فتملأ أرجاء الغرفة الكبيرة برائحتها الزكيّة.
بالقرب من «الوجاق» المزخرف والحديدي الضخم، يجلس السياسي السابق على كرسيّ يدخن سيجاره الغليظ، مطلقاً العنان لأوامره بدعم الوجاق بالحطب، «ع شو اشترينا أربعين طن سنديان، مش لحتى ندفا». يقول السياسي عبارته أمام زواره الذين يواظبون على «سؤال خاطره» أسبوعياً. لقد اشترى السياسي 40 طنّاً من حطب السنديان كمؤونة لشتائه، في وقت فاق سعر الطن حد 400 ألف ليرة.
مشهد التدفئة على الحطب في منزل السياسي السابق لا يشبه البتة التدفئة على الحطب في منزل أبو أحمد، العسكري في أحد الاجهزة الامنية. «وجاق» صغير يتوسط غرفة من غرف المنزل المتواضع، تعلوه طنجرة ماء يتصاعد منها البخار، وإلى جانبه قفص بلاستيكي مليء بقطع خشبية مختلفة الأنواع، من «البلاول والأوكال» (خشب يستعمل في أعمال البناء) المطلية بالدهان والزفت، فضلاً عن أغصان صغيرة جمعها أبو أحمد بعد تشحيل أحد بساتين
اللوز.
يعتمد البعض
على الألواح الخشبية المعروفة بالطبالي والبلاول


لا يخفي الرجل عدم قدرته على شراء مازوت التدفئة دفعة واحدة، ولا حتى حطب السنديان أو اللوز والمشمش، «بعد ما طارت أسعارهم فوق الريح، وحلي الحطب بعيون الميسورين وصاروا بدهم يزينوا صالوناتهم بالشيمينيه» يقول. تقتصر مؤونة الشتاء للتدفئة عنده على حمولة بيك ـ آب من خشب «الطبالي» (ألواح خشبية لحفظ أنواع القرميد والسيراميك) والبلاول، بقيمة 350 ألف ليرة، بالإضافة إلى ما تمكن من جمعه من تشحيل أغصان بساتين اللوز والكرز، وبضع شجرات قطعها من أمام منزله في إحدى قرى ضواحي بعلبك.
على مدى الأعوام القليلة الماضية شكّل حطب السنديان واللوز والمشمش، وحتى دوالي كروم العنب، بديلاً أساسياً عن مازوت التدفئة لدى العائلات البقاعية الفقيرة والمتوسطة الدخل. فكانت العائلات تنعم بالدفء طيلة أشهر الصقيع البقاعي بقيمة مالية تبدأ من 400 ألف ليرة (4 طن لوز ومشمش..)، ولا تتعدى 800 ألف ليرة (4 طن سنديان). إلا أن ارتفاع الطلب على حطب السنديان واللوز، ساهم في رفع الأسعار بشكل كبير، تعذّر بعدها على العائلات الفقيرة والمتوسطة الدخل أن تعتمد على الحطب الجيّد في تدفئتها الشتوية. عيسى حيدر أحد تجار الحطب في البقاع يؤكد أن زبائنه باتوا من «الأثرياء ومن بينهم رجال سياسة وقضاة وحتى أمنيون»، كاشفاً أنهم «ما بيسألوا عن السعر، المهم أن توفر لهم الكميات الكبيرة التي يطلبونها من عشرة طن وإنت طالع، لأنهم لا يستخدمون صُوَب (وجاقات) عادية، فقط شيمينيه وصُوَب كبيرة».
شاحنات وسيارات البيك ـ آب المحمّلة بالحطب تتوقف عند كل تقاطع طرق في البقاع. «ما عادت حركتها كما السابق» يؤكد حيدر، لافتاً إلى أن حركة بيع الحطب تدنّت كثيراً منذ العام الفائت «لأن العائلات المتوسطة الدخل والفقيرة توقفت عن سوق شراء الحطب. لا يمكن لرب العائلة أن يشتري أربعة أو خمسة أطنان من الحطب يصل سعرها حد الألف دولار ويجب دفع ثمنها نقداً ودفعة واحدة، في وقت يمكنه الاعتماد على المازوت بالتعامل مع محطة ما أو حتى تقسيط شرائها على دفعات خلال فصل الشتاء». يستند الرجل في رأيه إلى دفتر مبيعه، إذ يؤكد أنه كان في السنوات الماضية يبيع ما يقارب 200 إلى 300 طن من مختلف انواع الحطب في الشهر، في حين تدنّت حركة البيع لتراوح في العام المنصرم والحالي بين 50 إلى 70 طناً في الشهر.
تاجر حطب آخر لا يخالف حيدر رأيه، إلا أنه يشير إلى أن ضعف القدرة الشرائية لدى بعض العائلات دفعها إلى التخلي عن شراء نوعيات الحطب المرتفع الثمن، كالسنديان (400 ألف للطن الواحد) واللوز (350 ألف للطن الواحد)، واللجوء إلى شراء الحطب الأدنى سعراً. ويوضح أنه، أمام عدم توفر حطب دوالي العنب (بعدما اقتلعت كامل الكروم منذ عام 2010 بعد العاصفة الثلجية التي أوقعت غالبية الكروم)، والمشمش الذي كان ينقل من سوريا، أصبح اعتماد العائلات الفقيرة على الأخشاب التي تستخدم في أعمال البناء، سواء بحمولة بيك ـ آب أو بالأكياس (الكيس يتراوح سعره بين 7 و12 ألفاً، وتحتاج العائلة إلى ثلاثة أكياس في اليوم تقريباً). إلا أن التاجر كشف عن «حركة بيع لأحذية وألبسة مستعملة (بالات) لاستعمالها كحطب للتدفئة، ويصل سعر حمولة البيك ـ آب الصغير منها إلى 150 الف
ليرة».