تتناغم أنامل المرأة الأربعينية ببراعة بين خيوط «سدو» القطن. ببطء تفلت خيوط «شماميط» الصوف المغزولة، والمختلفة الألوان، من «كباكيبها» الكروية، فتتشابك مع خيوط «سدو» القطن بواسطة نول حياكة السجاد القديم، فتتجلى رويداً رويداً رسوم وأشكال مختلفة على «سدّاجة» (سجادة) صنعت في لبنان، وتحديداً في بلدة الفاكهة.
لا تزال نهلا سكرية ابنة بلدة الفاكهة في البقاع الشمالي تحرص على مزاولة مهنة أتقنتها ذات يوم. بالنسبة لها هي «تراث وتاريخ»، ليس للفاكهة وحسب، وإنما «للبقاع ولبنان بكامله».
بجوار منزل سكرية، غرفة ترابية مربّعة الشكل، تآكلت جدرانها بفعل عوامل الزمن. هي مشغلها الصغير المتواضع منذ ما يقارب الأربعين عاماً. أسندت إلى أحد جدرانها نولاً عتيقاً، فاق عمره العقدين ونيف من الزمن، بالإضافة إلى نولين آخرين صغيرين، وسط «كباكيب» الصوف الملونة وصوف الغنم المغسول غير المغزول. تمشّط أم عمر الصوف بمشط عريض، بهدوء وعناية وسط تلك الغرفة، فيما ينساب صوت فيروز عبر جهاز الراديو. تلفت إلى أن مهنة حياكة «السدّاج» (كما تسمّيه) في الفاكهة باتت في «دائرة الخطر، وتتجه سريعاً نحو الزوال والانقراض. ما عاد في مين يتابع بهالمهنة، يعني إذا أنا تعبت ووقفت عن الشغل، مين بعد بدو يشتغل بحياكة السدّاج؟».
صحيح أن منازل عدد من أبناء الفاكهة لا تخلو من نول حياكة سجاد، إلا أنها لا تستعمل للحياكة والتصنيع، وإنما «كقطعة أثرية في إحدى زوايا حديقة أو شرفة». من هنا ينبع خوف سكرية.
حتى ابنتها براء، التي تتقن حياكة السجاد، تتحضر للانتقال والعيش مع زوجها في أستراليا، في حين أن بعض الفتيات اللاتي لا يتعدى عددهن اصابع اليد الواحدة، واللواتي تتلمذن على يدها ونولها، وبرعن في الحياكة، «تخلين عن هذه المهنة ويعملن حالياً في محلات تجارية، لأن العمل فيها متعب ولا يعطي المردود المالي الكافي» كما تؤكد.
لم تيأس سكرية. ومن أجل ذلك كان سعيها، وبالتعاون مع أحد أبناء البلدة، وجمعية USAID لتنظيم دورة تدريبية لتعليم الفتيات والنسوة حرفة حياكة السجاد. وبالفعل خضعت 18 فتاة وسيدة من الفاكهة، و12 فتاة سورية، لدورة تدريبية نالت كل من المشاركات بعدها نولاً للحياكة وكمية من الصوف، «لتحفيزهنّ على البدء بالعمل». إلا أن اللافت أن أيّاً منهن لم تتخذ قراراً بالعمل على النول. تتحدث سكرية باستياء عن أسباب ذلك، فتعزو عدم امتهان حياكة السجاد إلى عوائق تبدأ من «العمل المضني الذي تتطلبه الحياكة، وغياب السوق التصريفية المحلية منها والخارجية، وضعف الطلب من الزبائن وحتى السيولة المالية لدى العائلات، إضافة إلى ما تشهده حياكة السدّاج المحلي من منافسة من السدّاج المستورد والنايلون، وما خلفته الأزمة السورية من إغلاق لسائر المصانع والمعامل التي كنا نعتمد عليها في توفير مستلزمات عملنا من سدو القطن إلى الصبغات الملونة وغيرها من المعدات».
وتلفت إلى «غياب الطلب على سداجة البوكس العريضة المشهورة بألوانها ورسوماتها، ولا حتى على الأصغر منها». فارتفاع أسعار الحياكة والتصنيع، ردع كثراً عن طلب تصنيعها، «إذ يفوق سعرها الأربعة ملايين ليرة وتتطلب أكثر من ستة اشهر عمل، في حين يصل سعر الأصغر منها حد المليونين ونصف وأربعة اشهر من الحياكة والعمل».
استياء سكرية من عدم اهتمام الدولة في اتخاذ خطوات لمنع زوال هذه المهنة تبدّده استعادتها لصور ذكريات الماضي الجميل لحرفة حياكة السجاد. فتروي كيف تعلمت الحياكة بعدما تخلت عن مقاعد الدراسة منذ أكثر من 38 عاماً، وكيف أظهرت براعة في الحياكة والنقوش والجودة بعد ثلاث سنوات من تعلمها. أما اليوم، فيقتصر عمل أم عمر على طلبيات صغيرة ومحدودة لبعض المغتربين اللبنانيين، «الذين يطلبون حياكة العلم اللبناني أو طرّاحات ودواشك وأرائك ومساند». لا يحصل هذا من دون تعب، فهي تجهد فيه لتأمين متطلباتها من سدو القطن وصبغات الألوان من أسواق الشام، أما الصوف فتتكفل بتأمينه من اصحاب قطعان الغنم في المنطقة.