الانتظار لساعات قبل بدء السيرة الحسينية هنا لا يهم، فقاصد المكان لا يعبأ بالوقت. يقول منظمو المجلس إن أكثر من 16 ألف كرسي تصفّ في الخيمة وفي جوارها الخارجي. العدد تؤكده العين المجردة، التي لن يخفى عليها أولئك الذين يحتلون الأرصفة لمتابعة المجلس، فيما يتابعه آخرون وقوفاً. بينما يتهامس الجميع أثناء الخطبة السياسية التي لا يصغي أغلب الحضور لمضمونها، يتهامس الناس: «تأخر؟»، «ما إلو بالعادة»، «يلا هانت». يصل «السيّد نصرات»، تهدأ الجموع، وتصمت المنطقة لساعةٍ ونصف ساعة على وقع تلاوته لمجلس العزاء الذي يصدح بصوته من خلال المكبرات، في الخيمة وخارجها.

ثمة علاقة غريبة تربط روّاد هذا المجلس بذاك الرجل. فقد بدأ «مجلس معوض» كتجمّع صغير لأبناء الحي عند محلة المشرفية في أوائل التسعينيات، وأصبح اليوم من أكبر التجمعات العاشورائية في لبنان. حتى أن قشاقش، الذي يتنقل خلال مناسبة عاشوراء بين الجنوب والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والشياح، يخصّ «مجلس معوّض» بمكانة مميزة، فيقول عنه: «أشعر بشيء ما يعتريني عندما أجلس على منبره».
لكن ما سرّ هذا التأثير؟
يقول قشاقش، الخطيب الحسيني «الثائر»، إنه أراد أن يخرج من عباءة التقليد في مجالس العزاء العاشورائية، لذا حرص على «تقديم إضافات تجعل منبر الحسين صورة واضحة أمام الناس». السيد الأربعيني يرى أنه على «مجالس الحسين أن تحاكي هذا الزمن». من سنحت له فرصة الاستماع لأحد مجالسه يدرك قصده تماماً، فخطاب قشاقش على المنبر لا يخلو من الأدب والشعر والعلم، فضلاً عن السيرة الحسينية.
وضع قشاقش، ابن بلدة حانين الجنوبية، حجر الأساس في مسيرته الدينية في عمر السادسة عشرة.
بدأ بتلاوة مجالس
العزاء في أحد أحياء
الطريق الجديدة


قرر حينها الانتساب للحوزة الدينية فيما تابع دراسته الأكاديمية. يؤكد، وبشيء من الفخر أن «أسرته المتدينة حفظت لأخوته وله خط الصلاح»، فيما ضاع العديد من أترابه في زواريب الحروب الداخلية والخارجية التي اجتاحت لبنان في الحقبة الماضية.
تخلق المجالس العاشورائية التي يتلوها قشاقش حساً فضولياً و«استفزازياً» لدى مستمعيها. العديد من التساؤلات تراود الأذهان فيما هو يعتلي المنبر بطلاقة. كيف يحضّر مجلسه؟ من أين له ترتيب الأفكار هذا؟ يضحك كثيراً لهذا السؤال: «صدّقوني لا أعرف». ثم يسارع إلى التوضيح: «أنا أؤمن بالثقافة الكبرى». ينظر إلى مكتبته صوب الجدار مفاخراً، وكأنه يشير إلى منحوتة جَهِد سنين لإنجازها. يقول: «وهبني الله قدرة على ضبط الذهن، أي حفظ الأشياء كصورة أكثر من الكلمات». يشدّد في هذا الصدد على أنه لا ينام من دون قراءة، فيجمع بهذا مخزوناً فكرياً يساعده في الاستشهاد بأمثلة وأفكار لمجالسه.
«لا كرامة لنبي في قومه»، لكن للسيد نصرات قشاقش كرامات كثيرة. تربطه بأبناء المنطقة التي ولد وترعرع فيها علاقة دافئة. ينتمي السيد إلى منطقة حي ماضي في الضاحية الجنوبية انتماءً وثيقاً، انتماء الولادة والترعرع والاستمرار. يسكن قشاقش مع أسرته في منزلٍ متواضع في حي ماضي وتجاوره والدته وأخته بشقة ملاصقة.
يقول عن علاقته بأبناء المنطقة ممازحاً: «إذا عندي موعد عالساعة الفلانية، بدي نص ساعة مسافة طريق، وساعة كاملة من السلام والكلام بالشارع».
حصّل السيد قشاقش على شهادة ماجستير في الفلسفة والإلهيات، فيما استكمل دراسته في الحوزة العلمية في إيران. بدأ بتلاوة مجالس العزاء في حي فرعي في منطقة طريق الجديدة، وانتقل بعمر التاسعة عشرة إلى تلاوة المجالس الحسينية في منطقة بئر العبد بشكل رسمي، فاستحق بهذا لقب «السيد الشاب» عن جدارة.
يقول إنه لم ينتفض إلا على الروتين والتكرار، وحرص على مواكبة لغة العصر وقدّم عاشوراء على طبق من معرفة. ثلاثة أشخاص أثروا في تكوين شخصيته، يعدّدهم بحماسة: الشيخ أحمد الوائلي الذي أخذ عنه اللمسة الأدبية، الشيخ عبد الحميد المهاجري الذي تأثر بأسلوبه الناجح في تحضير الخطب، والشيخ مرتضى الشهرودي آخذاً عنه السيرة والعزاء والصوت.
يعتبر أن «الدين هو حركة فكرية قائمة وليست فقط طقوسية»، ويعمل على نقلها لمن حوله. مجلسه لا يخلو من القصائد، والمعضلات العلمية، والسير التاريخية، والصوت الجميل. أما عن الاتهامات التي توجه له بالمغالاة في حب الإمام علي بن أبي طالب فيردّ: «أنا معني بالدفاع عن جدي نسبياً، فبيان الفضائل لعلي عبادة». وفي ما خص الطروحات العلمية التي يخصص حيزاً مهماً من مجلسه لعرضها فيقول: «أنا انتصر للدين عن طريق العلم».