لم يبق من موسم «المونة» إلا الاسم فقط، بعدما تخلى الكثيرون عن هذه العادة. وهذا ما طُوّر تباعاً في عمل «مطاحن غزير». فمن البدايات المقتصرة على الطحين، تحوّلت مطحنتا افرام والفتوح في البلدة إلى «بيتين للمونة» بمختلف أنواعها. لذا، لا يحتاج زائر غزير إلى السؤال عن مطاحنها. فالمطحنتان الكائنتان فيها تمثلان المَعلم الذي يستدلّ من خلاله إلى بقية أحياء البلدة.
البلدة الواقعة على مقربة من نبع القطّين، كانت تشتهر بطواحين الماء ويقتصر عملها على إنتاج الطحين. وقد ازدهر عملها في فترة الحرب الأهلية، وخصوصاً في المراحل التي كانت الحاجة فيها تتزايد إلى هذ المادة الاساسية. ومع مرور السنوات، توسّع العمل فيها، وباتت مطحنتا غزير تعدّان البرغل البلدي، وتوفّران في المحالّ التي تديرانها مختلف أنواع المواد الغذائية الضرورية في كلّ بيت.
هذه الشهرة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وإن كانت مطحنة افرام قد افتُتحت في الأربعينيات، فيما افتُتحت مطحنة الفتوح عام 1967.
يلفت جوزف غبيره، الشاب الذي يدير مطحنة الفتوح مع عمه، إلى الاعتماد على الاستيراد لتأمين المؤونة. «لا نشتري من لبنان إلا القمح والسماق والزعتر. كل المواد الباقية نستوردها من الخارج». يعدّد «الحمص من المكسيك، العدس من كندا واستراليا، الترمس من تشيلي، الفاصوليا من البيرو». المواسم البلدية قليلة ويكون سعرها أغلى «سعر كيلو الفاصوليا البلدي عشرة آلاف ليرة، مقابل خمسة آلاف للمستورد».
لا يسمي جوزيف الأشهر الحالية بـ «الموسم»، لأن العمل «لا يختلف فيها عن بقية أيام السنة إلا قليلاً، الكلّ بات يعتمد على شراء ما يريده عندما يحتاج إليه، وهو متوافر على مدار ايام السنة في السوبرماركت». لا يموّن إلا من يقطن في القرى النائية «يقصدنا أشخاص من المينا في طرابلس، أو من رميش في الجنوب».
في مرحلة «وسطى»، بين التموين والانقطاع عنه، «كان الناس يسلقون القمح، ينظّفونه ويأتون به إلى المطحنة، لكن مع مرور السنوات بدأ يخفّ هذا الأمر. صرنا نسلق نحن، ونتهرّب من الطحن لأنهم يأتون بكميات قليلة لا تتسّع في الماكينات، وقد نختلف على نوعيتها وكميتها لاحقاً» يقول جورج غريبه، العمّ الذي عاصر مختلف مراحل العمل في المطحنة. «كان الأهالي يأتون بأولادهم إلى المطحنة ليعدّوا مؤونتهم، كبر الاولاد وباتوا يأتون بأولادهم أيضاً.. لكن ليتذكروا طفولتهم فحسب».
يوافق إميل افرام على القول إن العمل تغيّر كثيراً. الرجل الذي يدير المطحنة والمحال مع إخوته، يختصر الأمر بكلّ بساطة «في السابق كان الناس يقصدوننا، اليوم صرنا نحن من يقصد الناس». بعدما باتت «المونة» موجودة في المحالّ. «صرنا نبيع بالكيلو وبالمفرق لكي نستمر».
لكن إذا كانت العائلات قد توقفت عن إعداد المؤونة، فعلى الأقلّ عليها أن تتعلّم توضيبها. والنصيحة التي يقدّمها جورج غريبه لربّات المنازل «لا يكفي شراء المونة، بل معرفة كيفية حفظها. في السابق النساء كن يحتفظن بالبرغل في أكياس من الخام، ويعرفن أن عليهن تعريض البرغل للشمس قبل توضيبه. اليوم، قلة من يفعلن ذلك».