لو لم تحافظ «سوق اللحم» في النبطية على مكانتها في قلبها، لما كان للحديث عن تراث هذه المدينة وتاريخها أية أهمية تذكر. هذا ما يعتقده روّاد السوق اليوميين على الأقلّ.عبر قنطرة عالية قديمة تدخل السوق. يستقبلك الحاج علي ضاهر، أحد قدامى قصّابي السوق، بوجهه الضاحك لتنهمر عليك من بعدها عبارات «أهلا وسهلا.. تفضلوا» من كل حدب وصوب.
تختلط رائحة أرجيلة «التنبك» برائحة سحاب الدخان المتصاعد من «الكوانين» التي لا تنطفئ.

زوّار السوق اليوميون لا يحرمون أنفسهم من لذة ارتشاف قهوتهم كل صباح في جو من «العجقة البلدية» ذات النكهة الخاصة تكفي لتعيدهم إلى زمن ورجال قد اشتاقوا اليهم. لا ينسى أهل سوق اللحم أجدادهم الذين تركوا هذه «الأمانة» بين أيديهم وكان من أبرزهم: أبو طلعت ضاهر أبو فؤاد جوهر الحاج درويش كلوت أبو عفيف محيي الدين وغيرهم.
يذكرونهم، ويعودون بالحديث إلى مطلع خمسينيات القرن الماضي، تاريخ إبصار سوق اللحم للنور في مدينة النبطية، بعدما كان عبارة عن خان لتربية الحمير. وقد شكّل يومها السوق الوحيدة في الجنوب الذي يتوجه اليه جميع أهالي القرى المجاورة نهار الاثنين لشراء ما يلزمهم من اللحوم، متّبعين مبدأ المقايضة: اللحم بما توافر من خضار وقمح.
تعرضت السوق عام 1982 لقصف اسرائيلي ذهب ضحيته شهيدان من أوائل العاملين فيه (علي بدر الدين وسليمان منصور). عمل القصابون خلال هذا العام بجهد لاستبدال بسطاتهم الخشبية بأخرى ألمينيوم فكان لهم هذا بمساهمة من محافظ النبطية آنذاك ابراهيم فقيه.
عام 2000، عمدت بلدية النبطية الى دفع مبالغ مادية للقصابين بدل التخلص من بسطاتهم التي شكلت حينها عائقاً أمام المارّة داخل السوق تم بعدها ترتيب السوق «من قريبو»، على حد قول القصابين. بقي الوضع على حاله المزرية إلى عام 2007، حين أقدمت البلدية، بهبة من الدولة الفرنسية، على اعادة تأهيل سوق اللحم في النبطية لتظهر بعدها هذه السوق التاريخية بحلة جديدة بلا جدران مشوهة ومياه آسنة وقطط وكلاب شاردة. كما شيّدت أبواب موحدة للمتاجر، تمكن أصحابها من إقفالها عند انتهاء الدوام .هذه الهبة التي بلغت أربعين ألف يورو لم تستطع تشويه تاريخ هذه السوق، بل أبقت على الجدران الصخرية التي تحتضن مداخل سوق اللحم الثلاثة وسط المدينة. لم تكن هذه المهمة سهلة لكنها تمكنت من انقاذ أحد المظاهر التاريخية لهذه المدينة بعدما أدى الاهمال المزمن والمتفاقم وفقدان المعايير الصحية والبيئية اللازمة إلى تهجير القصابين الأوائل وأفول نجم السوق حينها.