لا تبدّد اللافتات البنية المرشدة إلى مشاغل الفخار، التي وزعتها وزارة الثقافة على مداخل بعض الأحياء، فراغ البيوت والشوارع من معظم أهل راشيا الفخار المتوّزعين بين بيروت والاغتراب. تصبح مسؤولية تلاشي صناعة الفخار مشتركة بين إهمال الدولة وانشغال أهالي البلدة بتأمين مورد رزقهم بعيداً منها بعدما أنهكها الإحتلال الإسرائيلي والإنماء اللامتوازن.حتى أن هذه اللافتات لم تكن منّة من الدولة، بل جاءت بعد مساع حثيثة من المجلس البلدي والتعاونية الحرفية لإنتاج وتوزيع الفخار التي تأسست عام 2003.
الخيبة والحسرة تبدوان جلياً على رئيس التعاونية الحالي، وعضو البلدية، وسيم خليل الذي ترك عمله وامتيازاته في بريطانيا وعاد بأسرته قبل خمس سنوات للاستقرار في مسقط رأسه. الحماسة التي أرجعته تصطدم بقلة الحيلة.يحلم بتأريخ حرفة الفخار في بلدته وبتأسيس متحف يجمع القطع الفخارية الأثرية والأدوات التراثية التي كانت تستخدم في صناعتها.


لكن كيف السبيل إلى ذلك، ومقرّ التعاونية يصفر من الداخل؟ لم تحظ حتى الآن بدعم وتمويل محلي أو دولي لتجهيزها وإنشاء دورات تعلم الجيل الجديد على طريقة صناعة الفخار.
لكن أديب الغريب (الصورة) لا ينتظر دعم أحد. يغالب التعب وسنواته الثلاث والسبعين ويصر على أن ينهي ما تبقى من حياته على السدّان. كمعظم أبناء البلدة، ورث الحرفة عن عائلته التي كانت تشرك الأولاد فيها بسبب تعدد مراحلها.
بدأ يجرب في الخامسة من العمر إلى أن تفرّد بإرث والديه بعد مغادرة أشقائه البلدة. القصف الإسرائيلي المتكرّر الذي طاول منزله، متعمداً استهداف الفواخير، أجبره على النزوح نحو بيروت. طوال سبع سنوات، أشرف على دورات تدريب صناعة الخزف في مشغل سجن الأحداث في رومية. الحرب الأهلية أعادته إلى بلدته حيث جدّد الفاخورة واستحدث «عاكوشة» أو فرناً خاصاً به، بعدما كان لكل حي فرن مشترك يتناوب الفخاريون على شيّ قطعهم (دمر القصف الإسرائيلي معظم الأفران) فيه. ولأن موسم صناعة الفخار مرتبط بالصيف لحاجته إلى أشعة الشمس لتجفيف الفخاريات، يعتمد الغريب على أولاده لمساعدته خلال قضاء إجازة الصيفية من دراستهم وأشغالهم البيروتية. تتناوب بناته على نقل القطع بين الشمس والظل وإلى الفرن، ثم يزخرفونها بماء حجر المغرة. يتوقع الغريب أن يقفل المشغل بوفاته. زوجته وحدها لا تزال تقيم في البلدة، فيما أولاده وأشقاؤه غادروا. يستبعد أن يتحمل الجيل الجديد التعب والوسخ اللذين تسببهما الحرفة. جهاد إسبر الذي افتتح فاخورة في مكان إقامته الحازمية، ليس أكثر تفاؤلاً بمستقبل الحرفة.
عدة الصناعة من الدولاب إلى العاكوشة والسدان حتى الصلصال الدلغاني (تراب من أرض راشيا)، قد تتحول إلى شيء من الذاكرة. القطع الفنية ذات الماركة المسجلة باسم راشيا الفخار تفتقد تدريجياً: أنواع الأباريق (الكوز والإبريق وإبريق طبازي والدورق والشربة والحق والمنشل) والجرار (البقسية وخابية الزيت او النبيذ وخضاضية الألبنان والأجبان) والأواني (الوسطية القصعة والجسطر والزعنونة والبرنية والمقلى) ومزهريات الشجر والورود.
البلدة كانت تنتج من تلك الأنواع عشرات الأطنان التي تصدر إلى فلسطين والجولان والأردن ولاحقاً إلى أوروبا، إلى جانب السوق اللبناني. حالياً، باتت الصناعات اليدوية قليلة وكلفتها مرتفعة، ما أفسح المجال أمام الفخاريات الصناعية.