خلت خيمة العزاء التي نصبت بجوار منزل عائلة الشهيد عباس مدلج في بلدة يونين من المعزّين. رتّبت الكراسي في إحدى الزوايا، فيما العلم اللبناني لا زال يرفرف فوق صورة كبيرة للشهيد عند مدخل المنزل.
مضى أكثر من ثلاثة أسابيع على ذبح ابن العشرين ربيعاً، والجثمان لا زال مع «وحوش داعش» في جرود عرسال. عاد الأصدقاء وأقارب العائلة كلّ إلى أشغاله وحياته، وكذلك أشقاء الشهيد. محمد التحق بمركز خدمته العسكرية، والتوأم حسن ومحمود إلى مقاعد دراستهم.
أما الوالد علي مدلج، والد الشهيد، فلم يعد إلى العمل على سيارة الأجرة. لوزم البيت ليؤنس زوجته الحزينة حيث يغرفان صبراً من يمّ الذكريات: بين جلسة هنا، وضحكة هناك، وصورة وثياب وكتب للطالب الجامعي. كل ذلك وضع في خزانة، حتى «حنّاء» العريس كان لها مكان فيها. دموع الوالد تسابق كلماته. يعتذر عن الحديث تارة، فتمر لحظات صمت طويل قبل أن يدفعه الشوق تارة أخرى، للكلام عن عباس «المحبوب اللي متل الوردة»، الذي قتل «بدم بارد». يستعيد الموقف الذي أطلقه عند تأكد العائلة من خبر استشهاد ولده عباس قبل اقل من شهر، والذي شدد فيه على إعادته إلى الخدمة الفعلية في الجيش «فأقتل قاتليه وألتحق به شهيداً». لم يكتف الوالد بالكلمات. منذ ذلك الوقت لم يوفر اتصالا ًبقائد الجيش، أو ضباط المؤسسة العسكرية مشدّدا ًعلى طلبه «لأن تلك الطريقة قد تسمح لي بالأخذ بثأر ولدي، وأكيد رح تبرّد قلبي وتريحني».
مدلج ابن بلدة حرفوش ـ نبحا في البقاع الشمالي، نشأ في كنف عائلة عاشت سنوات طويلة مع الجار المسيحي في نبحا والقدام وبرقا، «بمحبة وإلفة بناء على تعاليم الدين الإسلامي الذي تربينا على قيمه».
يرفض الحديث عن نفسه، لكن الأقارب يعرفونه جيداً. الشاب الذي أراد تأسيس عائلة ابتعد عن الأمور الزراعية، وقرر الإنخراط في المؤسسة العسكرية. وبالفعل كان له ذلك. تشارك «فرشة» النوم العسكرية مع زملائه، «الدرزي والسنّي والشيعي والمسيحي» على مدى 23 عاماً. إيمانه بالجيش والوطن، دفعه إلى تطويع نجله البكر محمد في المؤسسة العسكرية، وكذلك الشهيد عباس، بغية «تأمين حياتهم». وعلى الرغم من مصابه الأليم، باستشهاد ولده عباس، إلا أن الرجل الذي يسكن حاليا ً في منزله في بلدة يونين، لا يخفي إصراره على تطويع ولديه التوأم حسن ومحمود في الجيش، «لأننا فقراء هذا الوطن ودرب الشهادة دربنا، مع أننا نحب الحياة».