اختفى «وادي أبو جميل». اختفت ملامح المنطقة القديمة واختفى اسمها. لم يبق فيها سوى بعض من ذكريات أهلها الخارجين، والأصح، المهجّرين منها. لم تستطع «سوليدير» أن تهدم الذكريات، ذلك رغم أنها غزت المنطقة بمشاريعها. نجا «كنيس ماغن أبراهام»، الذي أبقي عليه بحجة أنه «صرح دينيّ لا يُمسّ»، كما وعدت بترميمه، لكي لا ينهار جراء التصدّع الذي أصابه بعد الحرب الأهليّة.
لكن ترميم الذاكرة المصابة بصدوع الحرب، والبحث عن سكّان المنطقة الأصلييّن من غير اليهود ليسا سهلين. بعد أن «هُجّر» اليهود من «الوادي»، سافر بعضهم إلى إسرائيل عن طريق قبرص وفرنسا وجنوب أفريقيا، يقول المقيمون القدامى هناك. هكذا، تفككت المنطقة تدريجيّاً، وتبددت معالمها الأساسيّة.
«هاجرت من بيروت عام 1975، وكان
عمري 12 عاماً، ثم عدت إليها مجنداً في الجيش الإسرائيلي خلال اجتياح الـ82» (ماركو مزراحي)


«30 عاماً في بيروت لا يمكن قصها من الذاكرة (...) أتمنى لو أعود إلى هناك» (آلان عبادي)


«ما زلت أحتفظ ببزة والدي العسكرية التي صار عمرها 65 عاماً، وقد كان مفوضاً عاماً، وهي أعلى رتبة عسكرية يصل إليها يهودي في السلك العسكري في لبنان» (جاك بصل)
خفتت أصوات الناس، وحلّ مكانها صمت أرخته المباني الشاهقة على الشوارع المقطعة الأوصال. صارت المنطقة عبارة عن مقاسات هندسيّة منتظمة، بلا ألفة ولا رواة يتحدثون عن قصصها.

المنطقة الكتائبيّة الرابعة

لم تُهمل ذاكرة الرسّام فوزي البعلبكي ــ أحد سكان وادي أبو جميل القدامى ــ بعض القصص. يحاول ترتيبها بعناية، كأنه يعيد صياغة المدينة أمامه. يسرد سيرة الماضي القديم أثناء عيشه في الوادي بين 1967 و1995، حين «كانت المنطقة لا تزال ملتئمة على بعضها، لا يميّز اليهودي عن غيره، بعدما كانوا يشاركون الناس مصالحهم في المجالات كافة». يذكر أنه حين كان موظفاً في العدلية، جاء يهودي وتقدمّ بدعوة، ولم أعرف أنه يهودي إلا لاحقاً.
بعد حرب الـ1967، بدأت هجرة اليهود من وادي أبو جميل، وازدادت بشكل مطرد مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. كانت هاتان الحربان كشرارتين أشعلتا «حقداً» شبه جماعي في لبنان تجاه اليهود، خصوصاً بعدما «قتلت مجموعة من الناس شاباً يهودياً عقب الاجتياح الإسرائيلي في 1982».
كان الضحيّة مسؤولاً عن إدارة أملاك اليهود. بعد هذه الحادثة تزايدت أعداد المهاجرين. مورس العديد من أشكال الضغوطات عليهم للخروج، فتقلص عددهم «من خمسة آلاف إلى المئات ثم العشرات»، يقول البعلبكي. ويضيف: «قبل حرب الـ67 لم يكن أحد يتعرض لهم، كانت شرطة الـ16 آنذاك موجودة حول أماكن العبادة المخصصة لهم بهدف حمايتهم».
قبل الاجتياح الإسرائيلي، لم تكن هناك نسبة عالية من المسلمين في منطقة وادي أبو جميل، إنما كانت تضم نسبة عالية من المسيحيين المنتمين إلى حزب الكتائب في «المنطقة الرابعة»، غير أن النسبة الكبرى كانت لليهود. «كانت لليهود أملاك خارج المنطقة، لكن بعد حركة النزوح الكبيرة إلى جونية والدكوانة أثناء الحرب، باعوا ممتلكاتهم». اشترى الكورد والبيارتة المسلمون منهم، باستثناء أقليّة يهوديّة حافظت على أملاكها. أما المنزل الذي كنت أقطن فيه، يقول بعلبكي، في الوادي، فـ«يرجع إلى عائلة يهودية هاجرت المكان، ولم أجد فيه سوى بعض الكتب الدينية باللغة العبرية».
لكن أهالي المنطقة يقولون إن صاحب البيت «كان يملك ثريّا ضخمة كانت تنير المنطقة بكاملها». ويلفت البعلبكي إلى أن المنطقة تعرضت للنهب، بعد خروج اليهود من بيوتهم، حتى سمّيت بعد ذلك بـ«وادي الذهب»، لكثرة ما وجد فيها آثار دفنت تحت المنازل، وأثاث ثمين في البيوت. بعد الاجتياح الإسرائيلي، خرجت أعداد كبيرة من اللبنانيين من بيوتهم، وصاروا يبحثون عن أماكن يلجأون إليها... «فلم يكن بوسعي إلا أن أستقبل الناس من الجنوب والبقاع وأفتح لهم بيوتاً في منطقة وادي أبو جميل بعد أن أصبحت شبه خالية مع خروج اليهود».
يتذكر البعلبكي: «جئنا إليهم بالـ«بيك أب» وطلبت من الجميع الصعود إليه، إلى أن وصلنا إلى الوادي وأخذت كل مجموعة منهم مبنى».

الزيتونة (باي) يهوديّة

كان لوادي أبو جميل أهمية كبيرة، بالدرجة الأولى لقربها من المؤسسات الرسمية والمصارف والفنادق في منطقة «الزيتونة» خصوصاً، حتى أن اسم «الزيتوني» يرجع إلى عائلة يهودية، وهو ما شيّدت عليه حداثة اللبنانيين العرجاء اليوم ما يُعرف بـ«زيتونة باي». إلى ذلك، تقع المنطقة جغرافياً في وسط العاصمة، وكونها بمحاذاة البحر فإن ذلك سهّل تجارة أهلها.
لكن البعلبكي والسكان الآخرين لم يتوقعوا أن «تهجم سوليدير بهذه الطريقة». خلال الحرب كانت المنطقة عند أطراف الواجهة البحرية مليئة بالحانات والمطاعم، تحميها القوات السورية (قوات الردع)، إلى أن طغت الموجة الإسلامية على بيروت بعد ذلك، وأغلقت جميع الحانات، وبنيت الجوامع والمصلّيات مكانها.
اتخذت المنطقة طابعاً جديداً، بعدما خرج أهلها منها، وشلّت الحركة العفوية فيها، وطغت عليها الشركات والمدارس والمصارف. هدّت «سوليدير» المنطقة واشترتها بأسعار زهيدة جداً، فيما أبقت على بيوت الضباط الفرنسيين أيام الانتداب... «حتى أن هناك أشخاصاً لديهم أملاك في المنطقة، لم يحصّلوها منهم، ومن بينهم من رفض الخروج من بيته إلا بمبلغ معين، فلم يتحقق شرطه، حتى هدّت عمارته بمفردها جراء الهدم المتواصل بجوارها وتوفي إثر ذلك عدد من السكان. ولم تكن حجة الشركة سوى استبدال المباني التي هدمتها بمبانٍ أخرى تشبهها».
منذ سنوات، حدثت قصة أمام بعلبكي نفسه، حين جاء مندوب من «سوليدير» ليخلي أحد الأبنية، فرفض صاحبها وعرض الترميم وفقاً للمواصفات التي يضعونها، لكن بالتعاون مع شركة أخرى يختارها. رفضوا ذلك، فقرر أن يقدم شكوى للنيابة العامة. وفي اللحظة ذاتها «اتصل مندوب سوليدير بقضاة نافذين وقال عبر الهاتف: «اقطعولو ورقة».
هكذا، لم يبق أي أثر من منطقة وادي أبو جميل سوى مبنى «ستاركو»، ومبنى آخر كان موجوداً بمحاذاة باب ادريس نقل إلى مكان آخر لأنه «تراثي». تحولت المنطقة إلى رجل آليّ، لا يحكي إلا ما لُقّن، لا ما يرغب، بعدما اقتحمت المشاريع الاستثمارية المكان وسرّحته من تاريخه البصريّ، وبنيت فيه الشركات والمكاتب والمؤسسات، ومن بين ما بني فيه كذلك... «بيت الوسط». وإن كان استبدال المباني أمراً يطعن في هويّة المدينة، فإن استبدال أهلها بآخرين طعن يسبب نزفاً مضاعفاً.