لو تستطيع مدرجات ملعب برج حمود والمدينة الرياضية وبيروت البلدي والصفاء والنجمة وصيدا وصور وطرابلس وجمال عبد الناصر(الخيارة) أن تتكلّم لكان السؤال الأول «ماذا حصل حتى أصبحت خالية؟». فتلك المدرجات لطالما غصت بالجمهور وكانت تهتز نتيجة هتافاته التي تبدأ قبل ساعات على بداية المباراة، لكنها السياسة والطائفية والانقسام السياسي التي دخلت فحولت مدرجات الملاعب الى نسخة عن شوارع لبنان من انقسام وصراع وكراهية الآخر للآخر.
كان عام 2006 نقطة التحوّل في كرة القدم اللبنانية جماهيرياً، حين شهدت مدرجات الملاعب انقسام الجمهور الواحد بين 8 و 14 آذار، فكان المشهد المؤلم على ملعب بيروت البلدي في لقاء لمنتخب لبنان، حيث انقسم الجمهور الى فريقين كل يهتف ضد الآخر بدلاً من التشجيع بصوت واحد خلف المنتخب الوطني. جاءت مباريات النجمة في كأس الاتحاد الآسيوي لتزيد الأمور سوءاً، فصدر قرار اطلاق رصاصة الرحمة على الكرة اللبنانية ومُنع الجمهور من دخول الملاعب. وجاء في حساب الأرباح والخسائر المرسل من الاتحاد اللبناني لكرة القدم بعد ختام موسم 2006 - 2007 أن إيراد الاتحاد من الدوري العام: صفرا.

الأضرار والخسائر

قد يكون الجانب الاقتصادي هو الأبرز على صعيد النتائج السلبية لقرار منع الجمهور. فأيضاً في بيان الاتحاد المالي للأندية بعد ختام موسم 2002 - 2003 كانت ايرادات الاتحاد من مباريات الدوري والكأس وكأس النخبة والكأس السوبر ملياراً ومئة مليون ليرة لبنانية، حصل الاتحاد حينها على 20% من المبلغ الإجمالي، أي 220 مليون ليرة فيما ذهب الباقي الى الأندية، أي ما قيمته 880 مليون ليرة. أضف اليها إيرادات اتحادية من النقل التلفزيوني بلغت 885 مليون ليرة، حين حصل تلفزيون المستقبل والجزيرة الرياضية على حقوق البث. المواسم التي تلت شهدت أيضاً دخلاً سنوياً كبيراً من خلال الحضور الجماهيري وصل عام 2004 الى 737 مليون ليرة، اضافة الى حوالى 888 مليون ليرة لبنانية من النقل التلفزيوني. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السنوات التي تلت حتى جاء عام 2007 حيث كانت الإيرادات صفراً ما عدا أموال النقل التلفزيوني. هذا الوضع الكارثي تحسّن في السنوات الثلاث الأخيرة، لكن ليس بالشكل الكافي، حيث بلغت الإيرادات عام 2012 161 مليونا اضافة الى 541 مليونا من النقل التلفزيوني، وعام 2013 بلغت 149 مليونا من الدخول الجماهيري الى جانب 580 مليونا من البث التلفزيوني. أما في الموسم الماضي، فكانت عائدات الاتحاد 233 مليونا مع 580 مليونا من النقل التلفزيوني. أي إن عام 2014 سجل ما نسبته حوالى الـ 20% من مدخول عام 2003.
لكن ما الأسباب التي أدت الى تراجع الحضور الجماهيري بهذا الشكل المخيف برغم تغيّر الظروف التي كانت سائدة عام 2007 و2008؟
يمكن تلخيص أسباب تراجع الحضور الجماهيري في محاور عدة، منها الأمني والاقتصادي، اضافة الى دور الأندية وروابطها.

العوامل الاقتصادية

تؤدي العوامل الاقتصادية دوراً في تراجع الجمهور. فالأوضاع الاقتصادية الصعبة، ومعاناة شريحة كبيرة من اللبنانيين لتأمين لقمة العيش، جعلتا كرة القدم في بعض الأحيان من الكماليات. فأي مشجع لفريق ما يريد متابعة مباريات فريقه في الدوري، فهو سيشاهد أربع مباريات في الشهر بمعدل مباراة في كل أسبوع. أي إنه يحتاج الى 40 ألف ليرة ثمن بطاقات (تذكرة الدخول بـ 10 آلاف ليرة).
كما سيحتاج الى 40 ألفا بدل نقل إذا استعمل الفانات أو الباصات وكانت المباريات على ملعب صيدا وهو سيتوجه من بيروت أو من الجنوب. أضف اليها ما يقارب الـ 20 ألف ليرة للطعام والشراب، أي إن الكلفة الإجمالية هي 100 ألف ليرة لمشجع قد يكون يتقاضى الحد الأدنى للاجور وهو 675 الف ليرة، أي ما نسبته 15 % من راتبه الشهري. إذا قرر استعمال سيارته الخاصة، فسترتفع الكلفة الى 150 ألف ليرة. وبالتالي فإن مباريات كرة القدم قد تتحول الى عبء مالي لجمهور يعد معظمه من الطبقة الشعبية.

المستوى الفني والروابط

لا شك في أن ترهلاً وخمولاً كبيرين أصابا مكاتب الجمهور في الأندية نتيجة غياب الجمهور لسنوات عن الملاعب وتحديداً أعوام 2006، 2007، و2008 حين غاب كلياً. هذا ما أثر في نشاط تلك المكاتب والروابط في عملية حشد الجمهور وضبطه. فالنقطة الثانية أصبحت صعبة جداً، كي لا يظلم المسؤولون في تلك الروابط، حين تحولت المدرجات الى نسخة عن شوارع لبنان على صعيد سيطرة «الزعران» وغلبة النفَسين الطائفي والسياسي.
بلغ عائد مباريات عام 2003 مليارا ومئة مليون وفي عام 2007 كان المدخول صفراً


ويقول رئيس رابطة جمهور نادي الأنصار توفيق حمزة إنه منذ وقوع الإشكالات الطائفية والسياسية تأثر الحضور الجماهيري في الملاعب. فحين يهتف جمهور ما «ألله حريري طريق جديدة» سيغادر الجمهور الذي لا تتوافق توجهاته مع تلك الهتافات. وكذلك الأمر حين يهتف جمهور آخر «ألله نصر الله والضاحية كلها»، فهذا سيستفز جهة أخرى ويجعلها تمتنع عن الحضور أو تغادر الملعب، كما أن تسييس الأندية أضر باللعبة، إذ إن بعض الجمهور قد لا يتقبل مسألة تقديم الكاس أو اللقب الى مرجعية سياسية لا تتوافق مع توجهاته.
وهناك جانب فني، فتراجع المستوى أثر أيضاً في الحضور الجماهيري «الفريق الذي لا يربح سيتناقص جمهوره على نحو أكيد».
ويبدو كلام حمزة صحيحاً، وخصوصاً إذا ما قارنّا العائد المادي من النقل التلفزيوني في الأعوام السابقة، فـ»منتج» كرة القدم كان جاذباً أكثر في السابق نتيجة ارتفاع المستوى حيث كان العائد السنوي 885 مليونا عام 2003، 888 مليونا عام 2004، 890 مليونا عام 2005، وتراجع الى حوالى الـ 600 مليون عامي 2012 و 2014. وكذلك يظهر أهمية المستوى الفني على صيد الحضور الجماهيري في ما يتعلق بمنتخب لبنان. فإيرادات مبارياته عام 2003، حين كان مستواه متراجعاً حوالى 31 مليون ليرة، و 69 مليونا عام 2004، فيما ارتفعت الى 541 مليونا عام 2012 في ظل انجازات منتخب لبنان.
لا شك أن مسالة الحضور الجماهيري في مباريات كرة القدم اللبنانية معقدة ومتشابكة وتتداخل فيها مجموعة عوامل، لكن ما هو مؤكّد أنه لا يمكن لكرة القدم أن تنهض من كبوتها الا في حال عودة الجماهير على نحو منتظم، التي ستؤدي إلى ارتفاع الاستثمارات وعودة الاعلانات الى الملاعب.




بين الأمن والطائفية

قد يكون للأسباب الأمنية والسياسية الدور الرئيسي في تراجع الحضور الجماهيري. فالقرارات الأمنية غير الثابتة حول السماح بحضور الجمهور أو منعه تمثل عنصراً رئيسياً في خلو المدرجات. فالتخبط في القرارات الأمنية أوجد ما يشبه «القرف» لدى الجمهور، الذي أصبح لا يعرف إذا ما كان سيستطيع الدخول الى الملعب أم لا. فهل من المعقول أن يتكبد الجمهور عناء الذهاب الى ملعب صيدا، ويجد في انتظاره قرار «ممنوع الدخول»؟ ولعل ما حدث في لقاء النجمة والصفاء في نهائي كأس النخبة في 14 الجاري على ملعب صيدا البلدي يعطي فكرة عن التخبط الحاصل في القرارات. فالجمهور حضر واشترى عدد كبير منه بطاقات الدخول، حتى إن جزءاً منه دخل الى المدرجات، ليأتي قرار مفاجئ بمنع دخول الجمهور، فبقي نصفهم في الخارج والنصف الآخر في الداخل. وقطع الجمهور طريق صيدا حتى عادت القوى الأمنية وسمحت لهم بالدخول. هذه الأحداث انعكست سلباً على الحضور الجماهيري في نهائي الكأس السوبر بين النجمة والسلام بعد أسبوع واحد على الملعب عينه، حيث كان الحضور الجماهيري متواضعاً رغم السماح له بالدخول.
والمفاجئ أن غرفة العمليات في الجيش اللبناني تعمل وفق مذكرة تفاهم بين الجيش والاتحاد اللبناني تعود الى عام 2012 وتنص على دخول 250 مشجعا لكل ناد و20 شخصاً للاتحاد الى جانب الزملاء الإعلاميين. ورغم ذلك لم يجرِ تحديث هذه المذكرة رغم مرور سنتين عليها.
لكن أكثر ما يثير الاستغراب هو الازدواجية في التعاطي مع الموضوع الجماهيري بين لعبتي كرة القدم وكرة السلة. فجمهور الأولى ممنوع من الدخول، فيما ملاعب كرة السلة غالباً ما تكون ممتلئة، إن كان جماهيرياً أو على صعيد الهتافات الطائفية والسياسية.
ورغم ذلك لم يمنع الحضور الجماهيري إلا في لقاء وحيد بين الرياضي والحكمة، وحينها كان لهذا القرار أسبابه المتعلقة بنواحٍ فنية وقضية توقيف اسماعيل أحمد. المراجع الأمنية ترى أن عدد جمهور كرة السلة لن يتجاوز الألفي مشجع، وهؤلاء يمكن ضبطهم أمنياً. أما جمهور كرة القدم، فهو أكثر بكثير، وبالتالي يحتاج الى اجراءات استثنائية وعديد أكبر. لكن ما لا يبدو واضحاً للقوى الأمنية هو أن جمهور كرة القدم لم يعد كالسابق، وبالتالي فإن عدده لن يتجاوز الألفي مشجع أو الثلاثة آلاف كأقصى حد باستثناء المباريات الكبيرة كالتي تحدد هوية البطل.
لكن هناك أمر آخر يؤدي دوراً في آلية التعاطي مع الحضور الجماهيري على الصعيد الأمني، وهو الموقع الجغرافي للملاعب. فملعب المدينة الرياضية متاخم لمخيم صبرا، وملعب بيروت البلدي يقع في منطقة حساسة تحتاج الى إجراءات أمنية كي لا يحصل احتكاك بين جمهور من طائفة أو توجه سياسي معين وأهل المنطقة. كذلك الأمر بالنسبة إلى ملعب صور المتاخم لمخيم أيضاً، الى جانب ملعب طرابلس ووجوده في منطقة قد لا تحبذ بعض الجماهير التوجه اليها. وهذا ما يفرض على القوى الأمنية اعتبارات معينة تدفعها لاتخاذ قرارات صعبة.
شق أمني آخر، يؤدي دوراً في تراجع الحضور الجماهيري وهو تخوف الجمهور من التوجه الى مناطق معينة لها لون طائفي أو سياسي معين، لا يتوافق مع طائفة وتوجه هذا الجمهور. فمشجعو النجمة من الطائفة الشيعية يفكرون ألف مرة قبل التوجه الى ملعب طرابلس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جمهور الأنصار السني، الذي يخاف من توجه الى ملاعب تقع ضمن مناطق شيعية.