عاد الدوري... في يومٍ شتوي ماطر من عام 1993، كان الانتظار عند الساعة العاشرة صباحاً امام شباك بيع التذاكر في ملعب بلدية برج حمود. تقف مرتدياً سترةً واقية لكل شيء الا للبرد القارس، لكن كل المعاناة تستحق العناء، فقد سمعتَ كثيراً عن اثارة مباريات النجمة والحكمة وجمهوريهما. تريد عيش هذه التجربة بسبب عجزك في سنٍ صغيرة عن اختصار المناطق والذهاب الى «الغربية» لمشاهدة المباراة الاكبر اي قمة النجمة والانصار.
اليوم الفرصة مؤاتية، النجمة وجمهوره على مقربة من منطقة محاذية للمنزل، والزحف الجماهيري بدأ منذ ساعات الصباح الأولى، والهدف تذاكر الدخول ولا شيء سواها. فجأة يفتح «الأرمني»، كما كان يطلق عليه، احدى النوافذ الحديدية الصغيرة التي لا يمكن الوصول اليها اليوم بسبب المتاريس العسكرية القائمة. حركةٌ كانت كافية عادةً لجعل كل المنتظرين اسرع من «نفاثة» الانصار عبد الفتاح شهاب وهم ينطلقون لشراء تذاكرهم. وفي لحظاتٍ معدودة يصبح مشجعو النجمة على شكل تلةٍ، اذ يحملون بعضهم بعضا بهدف كسب السباق. تعرف ان بطاقة ضاعت من امامك وضعفت حظوظك في الدخول الى الملعب في كل مرّة صاح فيها «الأرمني» بلكنته: «بابا، من هونيك نجمة»، في اشارةٍ منه الى مدخل المدرج المخصّص لجمهور الفريق «النبيذي».في تلك اللحظات تتمنى ان تكون بالغاً، فارع الطول، قوي البنية، اذ من المستحيل على فتى في الثانية عشرة من العمر ان يصارع اولئك الرجال للوصول الى شباك التذاكر حيث نفدت البطاقات قبل اقل من ساعة على بدء بيعها!
يصبح الأمل في مكانٍ آخر، لا ينتهي الانتظار، وهذه المرّة انتظار جار او صديق للعائلة، فالمعادلة بسيطة، اذا ما حصل على بطاقة يمكنك الطلب اليه أن يمسك يدك ويدخلك معه الى الملعب على اعتبار انه والدك. خطة كانت ناجحة عندما تتجرأ على طلب هذا الامر من استاذك في المدرسة، الذي كنت تراه قاسياً. هو لا يمانع، وبلطفٍ استثنائي يقوم بالخدمة وتصبح فجأة امام مشهدٍ يحوّلك مدمناً على كرة القدم اللبنانية. مشجعو النجمة يملأون المدرجات والسطوح عن بكرة أبيها، واحدهم يتسلق عمود الانارة لزرع علم النادي، على وقع هتاف هادر: «نجمة، نجمة، نجمة». هتافٌ يقابله آخر من جمهور الحكمة الملوّن بالأخضر: «...إللي بيحبّ الحكمة أوعا يعشق بدالها».
لحظات لا تنسى يمكنها ان تكون جواباً دقيقاً عند سؤالك عن السبب الذي جعلك تحب الكرة اللبنانية وتتابع مبارياتها حتى يومنا هذا، في وقتٍ لا يعيرها كثيرون من محبي اللعبة في لبنان اي اهتمام. لحظات تبقي ارتباطك باللعبة قوياً حتى عند رؤيتك مشجعاً على الارض مضرجاً بدمائه في معركةٍ حصلت على ملعب بيروت البلدي القديم، او حتى عند متابعتك الحكام يذبحون فريقك المفضل بحرمانه لقبا او اسقاطه الى الدرجة الثانية. لعبة لا يمكنك الافتراق عنها مهما كانت الظروف التي تدهورت تدريجياً في مواسم لاحقة، لكنك تأسف عندما يصبح الحضور الجماهيري مجرّداً من نكهة الماضي الجميل.
قسمٌ قليل من اولئك الذين يرتادون الملاعب اليوم يعرفون المشاهد الواردة في الكلام اعلاه، فالقسم الآخر هجر اللعبة او اصبح «جمهور تلفزيون» فقط. والقسم الاخير هو المفقود حالياً، وهو الذي تحتاج اليه اللعبة، وهو الذي يقول ان ثقافة التشجيع اصبحت مغايرة اليوم، وهي لا تتلاقى مع ماضيه. والمقصود هنا ان قسماً لا بأس به من مشجعي كرة القدم نقل معه الى المدرجات كل اهوائه الخارجية دونها الكروية، فأصبح كلّ من ليس في صفه عدوّاً له، وما صبّ الزيت على النار هو المساحات المفتوحة لكل انواع الهجمات على الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي التي اصبحت مركزاً لطبخ الفتنة.
خطٌ أبيض لتشجيع أبيض مطلوب رسمه من قبل روابط الأندية، على ان يحاسب من يتخطاه بالبطاقة الحمراء المباشرة، فاللعبة اليوم تحتاج الى مواكبة جماهيرية حضارية تتلاقى مع كل الجوانب الفنية والادارية والاعلامية التي سارت في خط متطوّر طوال المواسم الاخيرة.