لم يكن يعلم علي ع. أنه بتوقيعه على كشوفات أحد الأندية البيروتية سيصبح أسيراً لديها. ولا شك في أنه في الخامسة عشرة من عمره لم يكن واعياً تماماً أنه بمجرد كتابة اسمه على تلك الورقة التي ترك عليها بصمة إبهامه اليمنى في مقر الاتحاد اللبناني لكرة القدم، أصبح في سجنٍ يحتاج إلى أعجوبة للخروج منه إلى حريةٍ بات يراها في ملاعب أخرى.
اليوم بلغ علي الثامنة عشرة، أي سنّ الرشد الذي يجعله يرى الأمور من منظارٍ آخر، إذ لم تعد فرحته في ذاك القميص الذي حلم بارتدائه يوم وصل إلى ملعب النادي المنتمي إليه حالياً، بل يطمح إلى كتابة اسمه في ملاعب أخرى، حيث وجد موهبته الفعلية، وحيث فرصته أيضاً للّمَعان وإثبات نفسه وإشباع نهمه الكروي. علي هذا قد يكون النجم المقبل في كرة الصالات في لبنان، لكن مهلاً، فذاك السجّان لن يدعه يخرج إلى فسحة السجن الكبير الذي يعيش فيه اللاعبون اللبنانيون، ويرفض أيضاً أن يمنحه أبسط حقوقه، على اعتبار أنه لا يخدم الفريق الأول تحديداً، وعليه أن ينتظر دوره.
علي يحتاج إلى نادٍ يمكن أن يكون سنداً له لتأمين أقساط الدراسة، وحاله حال أي لاعبٍ لبناني آخر، إذ إن الغالبية الساحقة تلعب من أجل تأمين لقمة العيش، ووجدت في كرة القدم مصدراً لرزقٍ لم تعرف الطريق للوصول إليه في مجالاتٍ أخرى.
هم كلّهم سجناء «نظام التواقيع» الذي ورثه الاتحاد الحالي عن سابقيه. بعضهم اختار السجن طوعاً وعن جهل، والبعض الآخر لم يكن لديه أي خيار آخر.

نظام تواقيع اللاعبين

في لبنان يُقسَم اللاعبون وفقاً لأنظمة الاتحاد الدولي إلى فئتين، هما: اللاعبون الهواة، واللاعبون المحترفون. لكن النظام الداخلي للاتحاد اللبناني لا يلتقي مع الواقع الذي يعاكس هذا التعريف، إذ إن المادة 8-2-1 من هذا النظام تشير إلى «أن اللاعب يعتبر هاوياً إذا تدرّب أو اشترك في مباراة من دون أن يتقاضى أجراً أو تعويضاً سوى مصاريف النقل والإقامة وثمن الملابس الرياضية...».
إذاً الواقع اللبناني ضائع بين الهواية والاحتراف على اعتبار أن لاعبي فرق الرجال تحديداً يتقاضون رواتب، لا بل يرتبط بعضهم بالأندية وفق عقودٍ مسجلة في الاتحاد. هذا الاتحاد ذهب في مناسباتٍ عدة إلى تعديل بعض المواد الخاصة بنظام تواقيع اللاعبين، لكن مثله مثل اللاعبين، فهو مقيّد أيضاً بقرار الأندية (أي تغيير للنظام يحتاج إلى موافقة الجمعية العمومية)، إذ لم يكن بمقدوره إحداث أي تغيير جذري، بحيث اقتصرت التعديلات على مواد غير مؤثرة في الشكل العام للعبة (التعديلات على النظام القديم نسبتها 10 إلى 15%)، على غرار المادة 8-1-2 الخاصة بنظام مطابقة الانتقال (TMS)، بحيث أصبح تنظيم شهادة الانتقال الدولية إلكترونياً.

كذلك، ذهب الاتحاد قبل عامين إلى محاولة جرّ اللاعبين والأندية للدخول في منظومة احترافية عبر تعديلٍ طاول المادة 8-3-1 الخاصة باللاعبين المحترفين، بحيث يُعَدّ «اللاعب اللبناني (وغير اللبناني) محترفاً إذا اتخذ من كرة القدم مهنة أساسية وتقاضى اشتراكه في مباريات أجراً وفق عقدٍ مبرم بينه وبين الجمعية (النادي)».

الأندية تشعر بالسخونة

عام 2012 اجتمع الاتحاد اللبناني مع أندية الدرجة الأولى لبحث آلية إقرار نظام جديد للعقود، وتمّ تأليف لجنة لاقتراح قانون جديد، لكن «التطنيش» بعدها كان سيّد الموقف، إذ ترى مصادر اتحادية أن غالبية الأندية تجد مصلحتها في النظام الحالي الذي يحمي مصالحها، لذا لا ترغب في الخروج بأي قانونٍ آخر يمكنه أن يفكّ الارتباط الأبدي مع لاعبيها. أما مصادر الأندية، فهي تحكي العكس، إذ يقول أمين سر نادي العهد، عضو اللجنة التي أُلِّفت قبل عامين، الحاج محمد عاصي: «مسألة التواقيع تحتاج إلى نهضة من خلال تحديث الاتحاد لقوانينه، فالأندية تطبّق نظام الاحتراف، لكن من دون عقود على اعتبار أنها تدفع أجوراً للاعبيها».
وفي وقتٍ يُعدّ فيه الاتحاد نظاماً جديداً، بحسب ما أكد الأمين العام جهاد الشحف، الذي سيوجّه دعوة إلى الأندية في الأشهر القليلة المقبلة لفتح باب النقاش معها من جديد، بدأت هذه الأندية تشعر بسخونة الموقف مع تبدّل واقع الكرة اللبنانية. وهنا الحديث عن موجة احتراف اللاعبين اللبنانيين في الخارج، غير آبهين لذاك التوقيع الذي ربطهم بأنديتهم اللبنانية إلى الأبد، بحيث يمكن الالتفاف عليه بسهولةٍ تامة من خلال ذريعة «الهواية» التي تطبع كرتنا. وكان آخر المنتقلين بهذه الطريقة نجم العهد حسن شعيتو، الذي رحل إلى البحرين من دون أن يتكبد عناء إبلاغ ناديه. وقبل شعيتو، كان هناك العديد من أولئك اللاعبين الذين دقوا باب الاحتراف الخارجي بهذه الطريقة، مؤكدين أنه لا قيمة إطلاقاً لتوقيعهم المحلي عند الجهات الخارجية، وتحديداً الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي كان قد طلب منذ فترة الاطلاع على النظام الخاص بتواقيع اللاعبين في لبنان.
إذاً، اللاعب المميّز يمكنه الهروب إلى مستقبلٍ أفضل، لكن زملاء له لا يمكنهم الهروب من واقعهم إلى ملعبٍ آخر يبتعد أمتاراً قليلة عن ملعب النادي الذي يربطهم به حالياً. ومسألة الهروب إلى الخارج دفعت بعض الأندية إلى أخذ التوجّه الذي طُرح اتحادياً سابقاً بتوقيع عقودٍ مع لاعبيها، فباتت ترغب في تحديد العلاقة معهم عبر عقدٍ يمتد إلى خمس سنوات في حدٍّ أقصى، وذلك لكي تحفظ حقوقها، أو لنقل لكي تستفيد منهم من زاوية أخرى، في حال انتقال أيٍّ منهم بعيداً من البلاد. وهذا الأمر فعله العهد والنجمة مع عدة لاعبين، والصفاء مع ستة لاعبين على الأقل سُجِّلت عقودهم في الاتحاد.
وعند هذه النقطة يتوقف الشحف مصوّباً على الضرر الذي يلحق بالأندية في ظل النظام القائم «بحيث إنها ستكون عرضةً للابتزاز من قبل أي لاعب أراد الاعتكاف عن اللعب بعد حصوله على مبلغٍ مالي، من دون أن يكون هناك أي مرجعية قانونية يمكنها إنصاف النادي».

جانبٌ إنساني

قد يكون صائباً القول إن ثمة نسبة تفوق الـ 90% من لاعبي كرة القدم في لبنان القادمين إلى اللعبة من بيئة فقيرة، وبالتالي هم يحتاجون إلى نظامٍ يحميهم كما يحمي أنديتهم في الوقت عينه، بحيث إن نظاماً واضحاً وبعيداً كل البعد عن زمن العبودية، من شأنه أن يقضي على النزاعات التي تحصل دائماً بين اللاعبين والأندية. أضف أن هناك جانباً إنسانياً للمسألة يسقط ذاك الارتباط المؤبد، إذ صحيح أن نظام الهواة لا يرحم، لكن هناك معايير تؤخذ بالاعتبار في نقاطٍ عدة، منها ما يرتبط بقطاع الناشئين. فالأسوأ هو مصير الصغار الذين ما إن يتمّون الثانية عشرة من العمر ويصبح بإمكانهم التوقيع لأحد الأندية (المادة 8-2-6)، حتى يعلقوا في الشباك من دون حسيب أو رقيب، في وقتٍ تأخذ فيه المعايير الإنسانية في أوروبا بعداً آخر بهذا الخصوص، والدليل معاقبة برشلونة الإسباني بمنعه من إجراء أي تعاقدات لفترتين في سوق الانتقالات، بسبب مخالفته لوائح التعاقد المتعلقة باللاعبين تحت السن القانونية، منها ما يرتبط بالحرص على عدم استغلال اللاعب الصغير السن الذي لا يمكنه توقيع عقد احترافي قبل بلوغه الثامنة عشرة.
اللاعب مُستعبَد ويجري استغلاله، لا الأندية مظلومة ومُستغَلّة. لكن في كلتا الحالتين لا مكان للإنسانية في كرتنا، حيث للمصلحة الفردية أو الجماعية الكلمة الأعلى. اسألوا حسين السيّد عن مصير اتفاقه مع الأنصار في الموسم الماضي، أو جاد نور الدين ورفاقه الساعين الى الهروب من مأساة محتملة في شباب الساحل، أو الياس فريجة الذي انتهت مسيرته لمجرد حدوث إشكالٍ بينه وبين إدارة ناديه (الأبدي) الراسينغ الذي لن يتحرر منه يوماً إلا في إن أشفق عليه أحدهم... والأمثلة كثيرة.




احترافٌ جزئي في الفوتسال

لا يمكن تغيير نظام التواقيع في كرة القدم لدى الرجال بين ليلة وضحاها بالنظر إلى المدة الطويلة التي عاشتها اللعبة وفق هذا النظام. إلا أن اتحاد الكرة كان حريصاً عند إطلاق بطولاتٍ حديثة العهد مثل كرة الصالات والكرة النسائية، على التماشي مع أنظمة عصرية. ففي الفوتسال مثلاً، تحلّ التواقيع كل ثلاث سنوات، وهذا الأمر أنعش اللعبة موسماً بعد آخر، وجعل رقعة المنافسة أوسع بين الأندية، بحيث توزّعت موازين القوى بينها بفعل تنقّل اللاعبين بين صفوفها، علماً بأن هناك توجّهاً لطرح القيّمين نظاماً جديداً وفق معايير محترفة بحتة.