سقط كلّ شيء تقريباً، ولم يبق إلا عمود التعذيب، والقن، والهواء. أيّ زائر عادي لمعتقل الخيام، لن يعرف ماذا يعني وجود عمود الكهرباء في الساحة الصغيرة الكائنة عند مدخل الزنازين. ولن يخطر في باله أن يسأل عن الصندوق الحديدي الصغير المركون في زاوية إحدى الزنازين القليلة الناجية من التدمير. من يمكنه أن يصدّق أن هذا الصندوق، الذي يعرفه الأسرى المحرّرون باسم القن، كان يتسّع لإنسان؟ قوات الاحتلال وعملاؤها جعلوه كذلك من خلال زجّ مقاومين فيه، بعد أن يجبروهم على الجلوس القرفصاء منحني الظهور، ويبدأوا بالطرق عليه من الخارج.

كانت هذ واحدة من طرق العقاب. الطريقة الثانية يدلّ إليها العمود الشهير، الذي علّق عليه مئات الشباب، وتعرّضوا للجلد والرمي بالمياه الباردة والساخنة، في محاولة لنزع الاعترافات بارتكاب... العمل المقاوم.
ليس أسهل من كتابة الجمل كلّها أعلاه، لكن كلّ سطر منها، يختصر عذاب مئات المعتقلين الذين احتضنت جدران الزنازين آلامهم وأحلامهم بالحرية.
يختصر كلّ الافكار التي كانت تدور في رؤوسهم، لمعرفة كيف ستسير الامور في التحقيق، وكيف يستطيعون التهرّب من الاعتراف، أو الاعتراف بأقلّ الممكن. يحاول ان يكون على قدر الدموع التي انهمرت من عيونهم، وهم يسمعون أنين أسير يتعذّب، او يقرأون رسائل من أهاليهم تطمئنهم إلى احوالهم، ويحتارون في كيفية رفع معنويات أهاليهم مؤكدين ثباتهم على خياراتهم.

حنين برغم الألم

لا يمكنك ان تجول في معتقل الخيام من دون أن تراودك كل هذه الأفكار، في محاولة منك لمعرفة كيف عاش هؤلاء كلّ هذه السنوات. وتتذكر لحظات التحرير الأولى، التي خرجت فيها القبضات من النوافذ الصغيرة طلباً للحرية. في السنوات الأولى التي تلت تحرير الجنوب، وحتى عام 2006، كان عدد من الأسرى المحرّرين في المكان. يرافقون من يرغب، ويروون له قصة المعتقل منذ بداياته.

بحث الأسرى المحرّرون عن الآثار
التي تركوها على جدران الزنازين


وقصصهم هم مع المعتقل. فعلى مدى ست سنوات، بقي معتقل الخيام بعيداً عن عناية الدولة. قيل الكثير عن ضرورة تحويله إلى متحف لكنّ شيئاً لم يطبّق. على الرغم من ذلك، استطاع المعتقل أن يتحوّل إلى مكان يكشف همجية الاحتلال، من خلال ما تركه من آثار تدلّ إليه، ومن خلال رعاية الأسرى المحرّرين له.
هنا، كان يمكنك أن تستمع إلى أسيرة محرّرة تقول إن المعتقل بالنسبة إليها «ليس المكان الذي ركعت فيه أياماً طويلة وأنا أُضرَب، ثم يغرقونني فيه بالمياه الباردة فالساخنة، أو غرفة التحقيق التي تلقيت فيها الشحنات الكهربائية... المعتقل هو ايضاً المكان الذي تعرّفت فيه إلى نفسي أكثر فأحببتها»، فيما يشكو آخر من التدمير الذي لحق به «لأنني كنت أريد أن آتي بأولادي إليه ليروه وأنا أحكي لهم ما هو الثمن الذي دفعناه لكي يستطيعوا زيارة أجمل بقعة من تراب الجنوب».
في المعتقل الذي يطلّ على عدد من قرى المنطقة، لا يزال الهواء نفسه فيه. يشعر به الأسرى، ويتذكرون كيف كان يلسعهم برداً في فصل الشتاء ويخفّف حدة الحرّ عنهم في ليالي الصيف.
يبدو غريباً أن يحمل كلّ الأسرى المحرّرين في ذاكرتهم مشاعر حنين إلى المكان الذي يمثل جزءاً من تاريخهم المقاوم. وكانوا كلما توجهوا إليه بحثوا عن الآثار التي تركوها عليه من خلال كتابتهم على جدرانه. وبعضهم وجدها في الأيام الاولى التي سبقت التحرير، قبل أن تمحوها كتابات الزوّار أولاً، ثم الطلاء الذي غطاها ثانياً.

تاريخ المعتقل

هذا المعتقل كان ثكنة عسكرية بناها الفرنسيون عام 1933، تسلمتها الدولة اللبنانية لاحقاً وأبقتها ثكنة عسكرية. في عام 1978، اجتاحت اسرائيل الجنوب اللبناني، وحوّلت الثكنة بداية إلى مركز استجواب وتحقيق. وبعد إقفال معسكر الاعتقال الشهير في منطقة أنصار عام 1985، تحوّلت ثكنة الخيام إلى سجن كان يكبر يوماً بعد يوم، مع تزايد عدد المعتقلين فيه، رجالاً ونساء وشيوخ وأطفال. وقد قارب عدد المعتقلين في ذلك العام الـ200 شخص، وتجاوز الألف معتقل في فترات لاحقة.

يبدو غريباً أن يحمل كلّ المحرّرين في ذاكرتهم مشاعر حنين إلى المكان



أكثر من عشر سنوات بقي هذا المعتقل بعيداً عن أي رقابة من قبل المنظمات الإنسانية، مورست خلاله مختلف أنواع التعذيب قبل أن يدخل إليه الصليب الاحمر الدولي عام 1995 ويتيح بعض التحسينات مثل إنشاء حمامات والسماح بمراسلة الاهالي.
روى الكثير من المعتقلين ما تعرّضوا له من تعذيب خلال سنوات أسرهم، فصدرت العديد من التقاير الحقوقية، وعدد من الكتب. ومن بين التقارير التي نشرت شهادة الضابط النرويجي «فيدار ليهمان»، وهو طبيب كان يعمل آنذاك ضمن نطاق فريق مراقبة هيئة الأمم المتحدة الخاصة بلجنة الهدنة بين لبنان وإسرائيل، إذ كتب عن ظروف الاعتقال في الخيام ما يلي: «كان التحقيق مع المعتقلين يستمر عدة أشهر أحياناً، وكانت لحرّاس السجن والمحققين صلاحيات مطلقة في استعمال ما يرونه مناسباً لنزع الاعترافات من المسجونين. مثل أن يعلّق المعتقلون بالسقف وبالمقلوب أحياناً وبالكاد تلامس أرجلهم الأرض وأثناء ذلك ينهال أفراد الميليشيات والجنود الإسرائيليون على الأسرى ضرباً بالعصي، بعدها يجبرون على الركوع ليضربوا على أقدامهم مع صب الماء البارد أو الساخن». هذا فضلا عن «استعمال الصدمات الكهربائية التي توجه إلى الناحية اليسرى من الصدر». وقد أرسل ليهمان تقريره إلى وزارة الدفاع النرويجية في عام 1992، إلا أن الوزارة لم تنشره، لأنه كان قوياً جداً. فأرسله إلى صحيفة «آفتن بوستن» التي نشرته بتاريخ 19/4/1995. وفي هذا العام، سمح بدخول الصليب الأحمر إلى المعتقل.
بعد التحرير الذي تحقق في 23 ايار 2000، فتحت أبواب المعتقل أمام الزوّار العرب والأجانب، ونظّمت فيه العديد من النشاطات، ومنها الملتقى الفني التشكيلي الذي استضاف في ربيع عام 2002 ستين فناناً عربياً، وغيرها من النشاطات، لكنّ الخطوة بقيت ناقصة، ولا يزال المعتقل اليوم مشرّعاً على أنقاضه، في انتظار دولة تعير اهتماماً لنتريخها المقاوم وتبادر إلى تحويل المكان إلى متحف.
أما أهل المعتقل، الاسرى المحرّرون، والمعنيون من اللبنانيين، فيعرفون جيداً أن تاريخ المقاومة لن تمحوه جدران دمّرها الاحتلال. ذاكرة الأبطال لا تزال حية، وهي التي ستحافظ على تاريخ مقاومة دحرت الاحتلال الاسرائيلي متجاوزة كلّ الآلام.