جل ما أذكره أن والدي أقنعني بزوجته الجديدة قائلاً : بصير عندك ضيعة....

■ ■ ■


نشأت في عائلةٍ بيروتية لا دخل لها بالسياسة، واكتشفت أخيراً أن مرد ذلك إلى المرة الوحيدة التي ضرب جدي والدي فيها إثر عودته من محور «الهوليدي إن» مقاتلاً مع «المرابطون» دفاعاً عن المنطقة. وبعد وقت قصير، ترك والدي «المحور» بسبب السرقة التي رآها بأمّ العين، ما أكد له أن السياسة والحروب ما هي إلا كذبة كبيرة بحسب قوله لي كلما شعر باقتناعي بفكر سياسي أو حزب لبناني. هكذا بقيت بعيداً عن كل ما يمت إلى السياسة بصلة، إلا أن رؤيته فرحاً بعمليات المقاومة كانت وسيلتي للتقرّب منه، ما دفعني أكثر من مرة لسؤاله عما يحدث فيكرّر إجابته الدائمة: «بعدك زغير ع هل اشيا».

لم أكن قد سمعت بحزب الله أو إسرائيل أو الجنوب إلى أن بدأ عدوان «عناقيد الغضب» عام 1996، ومعها بدأ حنقي على أهلي من منعهم لي متابعة الصور أو الأخبار. صرت أسترق السمع خلال نشرات ومواجز الأخبار من خلال التسلّل صوب غرفة الجلوس لمتابعة الصورة، مجاهداً في سماع صوت التلفاز الموجود في غرفة الأهل خوفاً من مرور أحدٍ من العائلة وسماع صوت التلفاز الذي استعمله. أذكر جيداً أني أصبحت خبيراً في تحديد المحطات التي ينتمي إليها المراسلون، حتى استطعت مطابقة المحطة الموجودة أمامي مع الصوت الصادر من تلفاز أهلي بسرعة هائلة كي لا يفوتني خبرٌ عاجل أو نقلٌ مباشر. فتتالت الأحداث، وفي رأسي الصغير ازدادت قناعتي بأن اليهود هم الأشرار وحزب الله الشرطة، لم أكن أعي مدى الصراع وبعده. منتظراً نشرات الأخبار باحثاً عن أي عملية لحزب الله كمبرر للقفز فرحاً على سرير والديّ مطلقاً الرصاص الوهمي.
أذكر جيداً أول زيارة «لضيعتي» تبنين، الحصن الذي لطالما منعنا من دخوله خوفاً من سقوطنا في أحد أفخاخه أو تدمير شيء من محتوياته، وبركة الموت التي ابتلعت أكثرية من سقط فيها. لكن شبح الاحتلال كان مخيماً، فالبيدر خلف منزل جدي كان من الأماكن المحرّم دخولها خوفاً من الألغام والقنابل العنقودية تحت طائلة الصفع المتكرر. كان الجنوب بالنسبة لي، بلد آخر تسقط فيه كل المحرمات إذ لا سلطة لوالديّ علي هناك، فكنت لأبناء خالتي ابن بيروت المتفلت الذي يحميهم من العقاب. وأصبحت زيارتي هي فترة الانتقام من كل من أساء اليهم في الماضي، من أم علي التي مزقت الكرة بسكين المطبخ إلى أبناء الجيران الذين وقعوا ضحية شجرة الزنزلخت. حتى جبانة البلدة اسقطنا حرمتها متنقلين على حمار كنا نمتطيه ونلحق العصافير ببندقية صيد من شاهد إلى شاهد. كنت أنظر في كل زاوية وخلف كل حائط، أدخل كل الحقول والمنازل المهجورة لعلي أحظى بلقاء المقاومة (وهكذا كان يخيل إلي، إنهم زمرة روبن هود، مجموعة صغيرة) لم أكن أدري أنهم منظومة جبارة يصعب على اليهود ايجادها، فما بالك بطفلٍ لم يتجاوز العاشرة من عمره!
انتهت تبنين لي خلال زيارة عام 1999. في تلك الليلة اشتبك عناصر المقاومة مع العدو، سطعت شمس القنابل المضيئة في سماء المنطقة، دوّى صوت الانفجارات حتى الرصاص كان يسمع بوضوح وأنا أقفز من نافذة إلى شرفة لعلي أرى ما يحدث وزوجة والدي تهرول خلفي مهدّدة بتقطيعي إرباً... لم تنتظر طلوع الصباح حتى تعود بنا إلى بيروت، ففي الخامسة فجراً ومع انخفاض حدة الأصوات وجدتنا على مشارف صور. كانت تلك الزيارة الأخيرة لسنوات عدة، فزوجة أبي أقسمت بأنها لن تزور الجنوب ونحن معها، أذكر جيداً دمعها وهي تقول: «مش مستعده ولادي يصرلن شي». اذكر أن تلك العملية أخذت حيزاً واسعاً من نشرات الأخبار وسطع نجمي بين الاصدقاء حتى بات يخيل لي أني كنت بطل تلك العملية لا شاهداً عليها من بعيد.
كل هذا زاد من تعلقي بالجنوب ومقاوميه حتى أصبحت أحصي قتلى العدو وأبحث عن العمليات المصورة، أراقب وأحاول التعلم كي أفاجئ المقاومين بمعرفتي عند انضمامي اليهم. ناهزت عمليات المقاومة الـ 2000 سنوياً قبيل التحرير وأصبحت ماهراً في القفز على الأسرّة، لم أدّع يوماً أني قارئ سياسي أو محلل فأتى التحرير كمفاجأة، ولكني لم أستطع المشاركة بالفرحة فزوجة والدي وبخوفها المعهود نصبت حواجزها وزرعت عبوات حتى ظننت بأني مستهدف شخصياً من قبل الموساد.
زرت الجنوب أخيراً بعد بضعة اعوام من التحرير، وجدته مختلفاً. فتبنين أصبحت مدينة صغيرة وذاك المرج خلف بيت جدي أصبح منزلاً، الأزقة المؤدية إلى بيت خالتي تغيرت، حتى بركة الموت طمرت. وأنا كبرت، لم استطع المشاغبة واللعب كما كنت أفعل قبل التحرير. وفي خضم هذه الصحوة المريرة فاجأني أحد الأقارب بالدعوة لزيارة القرى المحررة ولرؤية فلسطين عن قرب، فكانت تلك الجولة بداية نظرة جديدة، نظرة إلى منطقة لم أكن أعلم أن لبنان، جنة الباطون، يحضنها. نظرة إلى منطقة خضراء كنا قد حرمنا منها وحرمنا من إزعاج أهلها بحركات صبيانية كما كنا نفعل مع أهل تبنين وقرى مجاورة. تلك الجولة سمحت لي بأن أضع لكل اسم وجهاً. فتعرفت إلى مارون الرأس والخيام، قرى كانت أشبه بـ«كريبتون» بلد سوبرمان، قرى قرأت عنها ولم أرها. اكتشفت أن الجنوب كبير وأن أهله كثر وأن تلك المجموعة التي كنت ابحث عنها في صغري كانت أمام عيوني، كانت أهل قريتي وأهل القرى المجاورة، إنها خالي الذي قدم الكثير وجدتي التي أضحكت أهل تبنين على الجنود الذين حاولوا سرقة أساورها بعدما رمتها في سلة المهملات مدعية أنها لا تملك المصاغ، إنها كلّ من تحمل العيش من دون كهرباء وماء وخدمات بسيطة، إنها من حمل طفلاً في أحشائه تسعة أشهر ورباه وأرسله لقتال العدو وعاد شهيداً. اكتشفت أن تلك المجموعة هي شعب بكامله، حضنني ورباني وقدم لي «ضيعة».