«في مكان ما، اعتلى شاب عشريني سطح مبنى رمادي مرتفع. نظر إلى حذائه وقال: حذاء أسود وجوارب حمراء؟ ما هذا الهراء؟ مشى إلى المكان الخطر وأكمل أفكاره: هذه المدينة لا تعني لي شيئاً، أشعر بالهدوء وقد أفعلها هذه المرة». أينما حللت في مدينة جديدة، أحمل هذا المشهد معي. أتجول في شوارعها وأدعها تحدثني كما تشاء، بلطف أو بعنف أو باستعلاء. لا بأس طالما أنها تقبل بنوع من التواصل. وفي تجوالي أسال: هل من الممكن أن يحدث هذا المشهد في مكان كهذا؟

وسرعان ما يأتيني الجواب: لم لا يحدث؟ طالما أن هذه المدينة ليست الفردوس اﻷعلى، وفيها ما في المدن من شر. لم لا؟ طالما أن كل المدن قادرة على أن تدفع بك إلى حافة ما في النهاية.
كنت قد أقنعت نفسي في بيروت أن وظيفة المدن تتلخص في تهيئة أجواء الجنون أو المرض أو الانتحار. لا أكثر. لكن هناك، في كتمندو، وجدت نوعاً آخر من الإجابات، وإن كنت قد حاولت إقناع نفسي أنها مجرد مكان عادي وممل على كوكب لا ميزة له سوى اختراع الضجر. كتمندو غلبتني، وكانت سطوح بكتبور كافية لأقرر الإلقاء بكل هذه الخلاصات بعيداً: معابد لآلهة بوجوه جميلة تغري بالصلاة وشبابيك لناس أجمل من الآلهة تغري باستراق النظر. هذه مدينة لا تخضع لمنطق المدن...

■ ■ ■


«أصلي الآن لك يا صديقي يا ذا القلب الطيب أن تصير طائراً أسطورياً مثل «الغريفين» بجناحي نسر وقلب أسد، كما تمنيت دوماً أن تكون في حياتك القادمة، وأن تحلق فوق الهيمالايا وتعيش من جديد، حيث تمنيت يوماً أن تكون. يا ربيب الجبال الشجاع». هكذا كتب أحد أصدقاء صديقي الذي احتضنه الجبل. في النيبال، موت تحت الأرض وموت فوق الجبال.
قرأت في الصحف أن عدد قتلى الزلزال قارب 8 آلاف وما زال يرتفع. بين أواخر نيسان وأوائل أيار، أرى من بعيد كتمندو مختلفة تماماً عن تلك التي عاينتها بين أواخر شباط وأوائل آذار الماضي. أفكر الآن بسذاجة نرجسية أن كتمندو احتاجت إلى شاهد على جمالها الفوضوي الحاد، فدعتني إليها حتى أرى وأسمع وأشهد، وأحياناً أخرى أفكر أنني اخترتها ﻷنها بدت لي «معبأة» بسر عميق لم يكن من المفروض أن يخرج ويؤذي من حوله بهذا الشكل. الآن أفكر أن الأمر برمته لم يكن في الحقيقة سوى صدفة غريبة، غريبة جداً، لا تساعدني في اﻹجابة على سؤال الناس: ما الذي ذهب بك إلى هذه البلاد أصلاً؟ الرحلة برمتها كانت مجرد شهادة عفوية لبراءة المكان.

■ ■ ■


«أرجوك توقفي عن مطاردة الغمام أيتها الباغودا». هكذا كتب جيم موريسون في قصيدته. المعابد ذات الطبقات المسماة «باغودا» سوي أكثرها باﻷرض في ساحات «دربر»، لكن لا يبدو أن الناس هناك سيتوقفون عن مطاردة الغمام في وقت قريب، ونحن الباقين إن كنا نحب الغمام قبل ناس كتمندو سنشعر بالعجز والمسؤولية. ربما، لهذا ما نزال نكتب عن الحروب التي عشناها وتلك التي لم نعشها أيضاً. وربما، لهذا نسأل عن عدد كوارث الضحايا الطبيعية في مناطق زرناها أو لم نزرها. وربما أيضاً، لهذا نكتب عن الذين ماتوا وإن كنا لا نعرفهم.
كتمندو بريئة من اﻷذى. أحلف بالباغودا المائلة أنها بريئة.