في محلّه الصغير الواقع عند مدخل خان المصريين في الأسواق التراثية لمدينة طرابلس، لا يزال عبد الواحد حسون يجلس بين رفوفه التي تتراصف عليها مربعات ملوّنة تفوح منها عطور جميلة، ويستقبل زبائنه الباحثين عن أسرار الجمال والشباب الدائم. هذا على الرغم من أن الشريحة المستهلكة للصابون تضيق يوماً بعد يوم، كما يقول حسون. يتذكر أنه «في الماضي كان كل الناس يستهلكون هذه المنتجات، أما اليوم فقد بات زبائن هذه الصناعة محصورين بفئة من الناس التي تحب استخدام الصابون الطبيعي». في المقابل، تشهد هذه الصناعة انتشاراً خارج لبنان «بات الصابون الطرابلسي هدية مميزة للجميع، يحملها معظم زوار المدينة معهم».
يعبّر عدد من الحرفيين عن سروره لأن الصابون الطرابلسي بات يمتلك شهرة عالمية، «كان السياح يقصدوننا من كل أنحاء البلاد العربية والأوروبية لشراء الصابون، لكن غيابهم أخيراً أثر في القطاع». رغم ذلك تمكن التجار من المحافظة على السوق المحلية من البقاع وبيروت وجبل لبنان واقاصي عكار. كما قام الحرفيون بالترويج لبضائعهم من خلال المعارض الدولية وافتتاح محال لهم في الخارج.
في الماضي القريب أيضاً، كانت هذه الصناعة بيتية. تقوم كل عائلة بصنع صابونها مما يفيض عنها من زيتون حقولها. وكما تقلّص عدد هؤلاء، بات الحرفيون ـ التجار في طرابلس محصورين بعدد معين كآل حسون وجركس وعويضة.

صناعة الصابون

يستخدم في صناعة الصابون زيت الزيتون والعسل وشمع العسل. وهذا ما يجعل المنتجات «طبيعية بصورة تامة» بحسب حسون. وفي حين يتم الحصول على المواد الأولية من بساتين الضنية وعكار والكورة، «يجرى استيراد الزيوت العطرية من أوروبا فقط بسبب تميزها».
لذا، يجد حسون أن «من العوامل التي تميّز هذا الصابون أنه غني بزيت الزيتون، والزيوت العطرية والأعشاب الطبيعية، بالاضافة الى عملية الطبخ التي تتم على البارد ما يحافظ على خصائص الزيوت وفوائدها والمواد المرطبة». ويوضح أن «عملية الطبخ دقيقة جداً، وأيّ تعديل قد يفسد الطبخة». هذه العملية المتوارثة «تتم بصورة يدوية وفق التقنية التقليدية التي تعود الى مئات السنين».

يؤكد الحرفيون الطرابلسيون أن الأتراك ينافسونهم ويقلّدون نماذجهم


أما الأدوات المستعملة في هذه الصناعة فهي «بسيطة جداً، هناك الحَلّة (الوعاء الكبير) التي يتم دمج الزيوت فيها حيث تتخثر لتصبح صابوناً، بالإضافة الى المقطع اليدوي المستطيل المزود بالخيط المبولد لتقطيع الصابون بأحجام دقيقة، وكذلك القوالب المربعة والمستطيلة». ويلفت إلى تطوير الخبرات الأجنبية من خلال دورات بإشراف مؤسسات دولية متخصصة في استخراج واستخدام الزيوت العطرية.

أصناف منوّعة

تتعدد الأصناف والأنواع التي يصنعها الحرفيون في طرابلس، فهي لا تنحصر بصابون النظافة وإنما تتعداها الى الجانب العلاجي لبعض مشاكل الجلد. فهي تستعمل لترطيب البشرة، ولمعالجة بعض مشاكل الجلد كالصدفية وتفاوت ألوان البشرة. كما توجد أشكال مختلفة من الصابون العرائسي: «لدينا مجموعة كبيرة من أنواع الصابون ومعاجين الصابون. نحن ننتج الصابون التقليدي كصابون زيت الزيتون والغار وكذلك الصابون المعطر بالأعشاب الطبيعية كالفلّ العربي والورد والشاي الاخضر والنعناع البري والجردينيا وزيت البنفسج وجوز الهند والحجر النيلي وشمع العسل وزيت السمسم والبقدونس الآس».
ورداً على السؤال المتعلق بالخلفية العلاجية والمخاطر التي يمكن أن تنتج من ذلك، يشير أحد الحرفيين إلى أنهم باتوا يمتلكون خبرات أجيال تقوم على التوأمة مع جهود خبراء الاعشاب. أما حسون فيحكي عن زبائنه من الأطباء الذين يوصون مرضاهم أيضاً بشراء هذا الصابون، مؤكداً أن «منتجاتنا تهتم بصحة البدن الخارجية فقط وهي تخضع لمراقبة صحية من خلال إرسال العيّنات إلى مختبر البحوث الصناعية في الحدث».

سرّ المهنة

وبما أن هذه الحرفة تقوم على تركيبات وخلطات دقيقة، فإن الاستئثار بها يبقى سبيلاً للاستمرارية. يقول حسون: «سرّ المهنة لا يعطيه المعلم لأحد، حتى لعماله ومساعديه، شخصياً قمت بتعليم هذا السرّ لزوجتي وابني فقط». وهذا الأمر يؤكده محمد، أحد العاملين في زخرفة الصابون «نحن نعمل هنا لكسب الرزق ولكننا لا نعرف كيفية طبخ الصابون».
ورداً على سؤال يتعلق بعروض لبيع الوصفات الخاصة، يشير حسون إلى أنه تلقى خلال زياراته للخارج عروضاً لبيع سر بعض الخلطات لشركات كبيرة ولكنه رفض. ويضيف حسون أنه في كل الحرف التقليدية المتوارثة «من الطبيعي ان يحافظ الحرفي على خلطاته السرية ولا يطلع المتدربين لديه عليها. لي الحق بالمحافظة على سر المهنة، فهي عملية معيارية ومنضبطة كمياً وليست وليدة الصدفة، حتى هنالك خبراء في الكيمياء يقدرون ما نقوم به على صعيد الشق العملي التطبيقي».

أهمية التغليف

من أجل مواكبة التطورات اللاحقة بالمهنة، بدأ الطرابلسيون يهتمون بالشكل الخارجي لبضاعتهم، وتغليف المنتج بعبوة عصرية جذابة. «بتنا نعتمد بشكل كبير على الغلاف، بعدما لاحظنا فشل عدد كثير من المنتجات لأنها لم تجد تغليفاً لائقاً بها».
تحولت عجينة الصابون إلى مادة للإبداع، إذ يقوم الحرفيون بتشكيلها والحفر عليها لتصبح على شكل وردة أو تفاحة أو قلب أو مجسّمات مركبة، أو عناقيد ومسابح. ويقول الحرفي محمد إن «في هذه المهنة لا يتم رمي أي شيء، البقايا يتم استعمالها في أشكال جديدة وتحويلها إلى طابات ومسابح أو عناقيد من الصابون». في حين يتمنى خالد أمون، أحد العاملين في الحفر على الصابون، عدم بيع بعض القطع التي تعب في إنجازها «لأن بعض الأشخاص قد لا يقدرون قيمة الجهد والتعب الذي نبذله، فكل قطعة ننتجها هي جزء من روحنا».

المنافسة الخارجية

تعاني أصناف الصابون الطرابلسية من المنافسة الخارجية من جهات عدة، فبالإضافة إلى الصابون الصناعي الذي بات يمسك بالشريحة الكبرى من السوق، يقوم الحرفيون الأتراك بتقليد النماذج اللبنانية بحسب تأكيد الحرفيين الطرابلسيين «لكن الأتراك قلدوا الشكل دون المضمون، والنتيجة كانت مغايرة، نحن نمتلك خلطات هويتها طرابلسية، ولم يتمكنوا من معرفتها، منتجاتنا تتفوق على المنتجات الأجنبية التي اغرقت السوق». وللترويج لها، عمد بعضهم إلى الاستفادة من التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج لمنتجاتهم «نقوم منذ سنوات بتسويق المنتجات من خلال مواقع الكترونية على شبكة الانترنت».

ترميم الخان

في السنوات الأخيرة ، قامت جهات دولية وأوروبية بترميم العديد من الخانات كخان الخياطين، إلا أن ترميم مصانع الصابون قام بجهود الحرفيين من هنا تأكيدهم أن ما حافظ على الآثار في المدينة، أنها كانت ملك للعوائل الطرابلسية وليست للحكومة، موجهين الانتقاد لتقصير المديرية العامة للآثار «عندما يتبع موقع أثري للدولة توقع خرابه، وهذا الأمر ينطبق على مهنتنا فنحن لم ننتظر الدولة للمحافظة على خاناتها».