تتعالى الصيحات عند اهتزاز شباك المرمى بالكرة العابرة كالصاروخ. تدوّي تلك الصيحات أكثر، فتستدعي من سمعها من سكّان منطقة الشيّاح، لمتابعة المباراة «الصاروخية» في ملعب النصر. كان يحدث ذلك طيلة أيام شهر رمضان، حيث ينشغل الرجال والأطفال بـ»التهييص» في ملعب النصر، فيما النسوة منكبّات على إعداد طعام الإفطار.
هذا الذي كان، صار الآن محفوظاً في الذاكرة. ذاكرة أبناء الشياح عن «الدورة الرمضانية»، التي كانت تبدأ قبل الإفطار بساعة واحدة، والتي بقيت حتى سنوات خلت موعداً ثابتاً لعشّاق كرة القدم. يومذاك، كانت الشياح معقل تلك اللعبة، حيث تتوافد الفرق الرياضية للتباري على لقب الدوري، فيما تنشغل الجماهير بتهيئة المكان، منهم من يبتكر مدرّجات من الكراسي البلاستيكية ومنهم من يكدّس الرمال لتصبح تلالاً صغيرة تمكّنهم من مشاهدة أقدام اللاعبين، وهي تلاعب الكرة. وثمة من يحلو له الجلوس فوق سطح المبنى ومشاهدة اللعبة من «فوق». هذا المشهد الذي ترسّخ في ذاكرة كل من حضر مباراة في ذلك الزمن، ما عاد موجوداً اليوم بفعل عوامل عدة، منها زحمة المباني التي استقّرت هناك، والسوق الشعبية، المسمّاة بسوق الجمال، التي حلّت وسط الملعب.

«ده كان زمان»

فيما مضى، كان مصباح رميتي الملقب بـ «مصباح الديك»، يطلب الإذن من أهالي الأولاد في الشياح لتدريبهم على لعب الكرة. كان «الديك» ينجح في جمع مئتي طفل، في الحد الأدنى، كما ينجح في جمع المال من التبرعات ومن بعض “اشتراكات” الأهالي. فمثلاً، كان يحصّل من كل بيت على مبلغ 5 آلاف ليرة لتحسين وترتيب الملعب الرملي، الذي صار يعرف في ما بعد بملعب نصر. تلك التسمية التي أتت من اسم الفريق الذي أسسه الديك أيضاً. يفخر الرجل بأن هذا الملعب كان «منبعاً للاعبين الأقوياء. يدرّب لاعبين، ثمّ تأتي الأندية لضمه إلى فرقها، وكانوا يصنّفون في الغالب بلاعبي الدرجة الأولى».
الديك، الذي كان لاعباً محترفاً وحكماً دولياً، لا يزال يذكر المرة الأولى حين قطع أشجار التوت والرمان ليحوّل الفسحة إلى مكان للعب. تلك الفسحة التي علّقها داخل إطار قديم على أحد جدران زاوية الشارع الصغيرة، والتي استطاع استئجارها بمبلغ صغير لبيع الثياب الرياضية. تبعث هذه الصورة في نفسه الفرح، حتى أنه استنسخ منها بضع نسخ حفظها في كيس صغير ويهديها لمن يقدّر هذه الذكرى.
حين تسأل الديك عن مكان وجود ملاعب الرمل اليوم، تخرج الـ «أوف» من فمه، لتدلّ على الحزن الذي يعتمل قلبه لاختفاء هذه الملاعب، وانحسار وجودها في الذاكرة. ويستطرد في الحديث عن الملاعب الاصطناعية التي لا توحي بالألفة، فـ»اللاعب إذا لم يستنشق رائحة التراب والرمل في الملعب، لا يمكن أن يغدو لاعباً. واذا لم تنغمس قدماه في أرض الملعب الرملية لن يكون مؤهلاً لاحتراف اللعبة». لذلك السبب، الملاعب الجديدة لا يمكن أن تخرّج لاعبين محترفين.
اليوم، زاد انتشار هذه الملاعب الكئيبة، لتسهم بشكل مباشر في اختفاء الملاعب الشعبية. تنقسم هذه الملاعب بين ميني فوتبول وملاعب كبيرة وتحدّد مساحاتها بالجدران أو بالسياج الحديدي. فبعد أن شطب التنظيم المدني المساحات الخضراء من بيروت ليستبدلها بالباطون، غطّى اللون الرمادي الحديث على الأخضر. ولأن اللبنانيين يعشقون لعبة كرة القدم، لجؤوا الى هذه الملاعب كحل بديل من غياب الملاعب الشعبية وكاستثمار يؤمن دخلاً مقبولاً.
«عصفوران بحجر واحد»، يقول الديك. يعني «ترفيه ينتج المال». ولكنها، تبقى ملاعب شبيهة «إلى حدّ كبير بملاعب السجون التي نراها في الأفلام»، يتابع.

أبو عضل

قبل سنوات كثيرة، كان هناك في منطقة مار مخايل ملعب سمّوه ملعب أبو عضل. اليوم، لم يعد موجوداً، ولكن أحد مؤسسي هذا الملعب، والذي يعرف أيضاً بملعب الإيمان، يعيد التذكير به، فيرجع بالذاكرة إلى فترة الحرب الأهلية، وتحديداً إلى عام 1979، «حين كان العشب الأخضر والشجر يفترش هذه المنطقة». يومذاك، عمد هو ورفاقه إلى اقتلاع العشب وتركه رملياً، وقد استقطبت تلك الفسحة محبين كثراً لكرة القدم «في كل لبنان»، كما يقول. أما الجمهور، فقد كان «كبيراً لدرجة أن الشوارع المحيطة بالملعب كانت تمتلئ بالمشجعين»!
اختفى ملعب أبو عضل، وظهر مكانه «تجمّع» لثلاثة ملاعب اصطناعية. لكنه، وكما حال الملاعب التي لا روح فيها، لن ينتج هذا التجمع لاعبين محترفين. سيبقى مكاناً للتسلية والربح. لا أكثر من ذلك ولا أقل. وهذا ما يقول الرجل أيضاً.
الميزة الوحيدة للملاعب الحديثة، بحسب الرجل الذي يرفض ذكر اسمه، أن «الأهالي واللاعبين وجدوا فيها مكاناً نظيفاً وحديثاً لممارسة هواية لعب كرة القدم، إضافة إلى وجود نظام محدّد من قبل المالكين يجعلها مكاناً آمناً خصوصاً للأولاد».
بينما يقول مدرب آخر يقوم بتمرين الأطفال الهاوين: «كان الطلاب سابقاً يأتون من جميع المناطق، من بيروت والطريق الجديدة، أما اليوم، فقد حدّت الأحداث السياسة والأمنية الطارئة من عدد المشاركين في هذا التمرين، حيث انقطع بعض المتمرنين عن الدخول الى الضاحية الجنوبية، وكذلك الأمر بالنسبة للمتمرنين الذين يقطنون داخل الضاحية، صاروا يعتبرون أن الذهاب والمشاركة بمباريات في ملاعب تقع ضمن أمكنة مقسمة حزبياً ومذهبياً مخاطرة».

جمهور المقاهي

الفرح الصاخب الذي يعلو داخل الملاعب ليهز السماء، يختلف كثيراً عن كل أنواع الفرح. مزيجٌ من الرقص والجنون ونوبات البكاء والضحك وغيرها من الأحاسيس التي تخالج المشجعين. وإن كانت هذه المشاعر في ما سبق «علنية» على مدرجات الملاعب، فقد صارت اليوم تمارس أمام الشاشات في المنازل أو في المقاهي. وفي أحسن الأحوال، بمسيرات من السيّارات والدراجات النارية مع بعض المفرقعات، تعبيراً عن الفرح بفوز فريقهم. وذلك بعد منع الجمهور من دخول المدرجات.
المدينة الرياضية والملعب البلدي، ملعبان لهما الأهمية ذاتها. هذان اللذان كانا حتى وقتٍ قريب مدرّجات للفرح، استحالا اليوم منعزلين ووحيدين، لا تطأهما قدم. هذان المكانان اللذين يُفترض بهما أن يكونا نقطة تلاقٍ بين اللبنانيين والتفاعل في ما بينهم، كادا أن يتحولا في مرّات عدّة إلى ساحتين للشهداء.
في عام 2006، قلبت السياسة مفهوم الرياضة والتشجيع في لبنان، حيث انتقلت الانقسامات بين فريقي 8 و14 آذار من رياض الصلح وساحة الشهداء إلى مدرجات الملاعب. صار يهتف كل جمهور لفريقه السياسي بدلاً من تشجيع المنتخب الوطني. وبعد إحدى المباريات لفريق النجمة في كأس الاتحاد الآسيوي في المعب البلدي، صدر القرار بمنع الجمهور من دخول الملاعب.
ملعب المدينة الرياضية أو مدينة كميل شمعون الرياضية، الذي يحكي حكاية الاجتياح الصهيوني لبيروت وتهديمه له، يستطيع أيضاً أن يحكي حكايات الحرب الأهلية وانقسامات اللبنانيين الطائفية والسياسية داخله. كذلك الأمر بالنسبة إلى الملعب البلدي الذي توّج أبطالاً في أعراس وطنية، ويختزل في أرضه قصصاً ستقتلع من أجل مشروع آخر. حيث تعمل بلدية بيروت اليوم على اقتلاع الملعب من أجل إقامة موقف للسيارات بحجة زحمة السير الخانقة في منطقة طريق الجديدة.
«حجةٌ أقبح من ذنب». هكذا يقول أبناء المنطقة هناك. ولا يقف الموضوع هنا، فبحسب رئيس المجلس البلدي بلال حمد سينقل الملعب البلدي الى حرش بيروت. هكذا، سوف يتم بناء ملعب بلدي ضخم فوق آخر المساحات الخضراء! ويحضر السؤال هنا: هل بانتقال الملعب البلدي إلى مكان آخر، ستحلّ المشكلة؟ هل سيسمح بدخول الجمهور؟ الجواب ليس حاضراً الآن، ولكن الأكيد أن بيروت تتحول شيئاً فشيئاً إلى موقف كبير للسيارات.