بين ثنايا عدد من القرى البقاعية، ثمة مطارح باتت منسيّة رغم الصخب الذي كانت تشهده يوماً. في زوايا تلك الأماكن نسج العنكبوت خيوطه وأقام جسر تواصل بين الشريط الشائك المتدلي من نافذة المحطة، وعربة القطار الصدئة. أشجار ونباتات نمت بين المقطورات، كما لو أن القطار يحتضنها رافضاً التخلي عنها. في الأمس البعيد كانت محطات القطار في رياق وجنتا ويحفوفا وسرغايا وطليا وبعلبك واللبوة ورأس بعلبك والمعلقة، تضجّ بالحياة مع كل صافرة ودخان متبعثر لقطار آت من بعيد.

الجميع كان على الموعد مع محطته الأقرب إلى قريته وبلدته. مسافر يسعى للوصول إلى مقطورته، وتاجر يشحن بضاعته ومواشيه، وضابط تركي (قبل نهاية الحرب العالمية الأولى) وآخر فرنسي يشرف على وجود عسكرييه على متن القطار، وعتّال يلهث خلف لقمة عيشه بالقروش والليرات، ومأمور وحارس مقطع ومفتحجي وقاطع تذاكر يسارعون لإنجاز واجباتهم الوظيفية قبل انطلاق القطار باتجاه محطته التالية. أما اليوم فلا شيء من كلّ هذا، المكان نفسه ليس سوى «خربة» يسكنها العتم واللاشيء، وسط إصرار من الدولة على إبقاء كل ذلك التاريخ والتراث على قارعة النسيان.

توقف الصافرة

أكثر من قرن مضى على إنشاء محطات القطارات في البقاع من قبل العثمانيين، بين العاصمة بيروت والشمال والبقاع، باتجاه دمشق والأردن وفلسطين، وحلب وحماه وتركيا فأوروبا. لكن صفير القطارات على الخطوط كافة توقّف. أطفأته الحرب الأهلية اللبنانية منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتحوّلت القطارات وعرباتها إلى ركام من القطع الحديدية الصدئة، في وقت سرقت فيه قضبان السكك الحديدية، وباتت إما مادة للتجارة وإما أعمدة لتسوير الحدائق والبساتين وكروم العنب.
ذكريات القطار وأيامه لا تزال حاضرة في بال جورج معكرون، ابن مدينة رياق والمسؤول السابق عن محطة رياق، والذي يواظب حتى اليوم على إلقاء نظرة يومية على المحطة وأبنيتها ومقطوراتها من على شرفة منزله الملاصق للمحطة، وفي ذاكرته صور «كما لو أنها اليوم» لسنوات العزّ. يرسم بإصبعه حركة سير القطارات. يذهب أكثر باتجاه طفولته، والمشهد الذي كان ينتظره وكلّ أترابه، فيصف صوت الصافرة الضخم الذي يشبه «صفارة المرفأ والبواخر» عند الرابعة من عصر كل يوم، تنبئ العمال في «أوتيليه محطة رياق» (معمل) بانتهاء دوام العمل، ليخرج بعدها أكثر من 400 عامل من معمل المحطة على دراجاتهم الهوائية يشقّون طرقات رياق باتجاه منازلهم في رياق وعلي النهري والنبي أيلا وتمنين وقصرنبا وبدنايل، فضلاً عن عمال قاعدة رياق الجوية المجاور.
أبو ربيع الذي ترعرع إلى جانب والده الموظف في سكة حديد رياق، اختار هو أيضاً وظيفة كاتب في محطة قطار رياق بمجرد بلوغه 19 سنة. «كيف ما بدنا نحب محطة قطار رياق وقطاراتها، ونحنا عايشناها من وقت كنا أطفال، وياخدونا أهلنا برحلات فيه، وبعدها خدمنا بهالقطاع ووهبناه عقوداً طويلة من عمرنا»، يقول معكرون.
لصبية أيام زمان حكايا مع رشق القطارات، ووضع القطع النقدية والمسامير على سكة القطار للحصول بعد مرور دواليبه عليها على قطع مسنّنة لامعة، أو انتظار وصول السيرك الأوروبي «ميدرانو» كل عام، و«الفرجة» على الحيوانات أثناء نقلها من مقطورات الخط العريض (نسبة إلى عرض سكة الحديد 1,430سنتم، وهو خط أوروبا ـ تركيا ـ حلب ـ بعلبك ـ رياق) إلى مقطورات الخط الرفيع (1,05 سنتم وهو خط رياق ـ بيروت).

محطة رياق

محطة رياق التي تأسست عام 1898 تعتبر من «أكبر محطات القطارات في الشرق»، وتبلغ مساحتها 170 ألف متر مربع، وتتألف من 57 مبنى. وهي بحسب أبو ربيع: «السنتر لسائر محطات خطوط سكة الحديد، إذ تضم أكبر معمل لتصنيع عربات القطارات والمقطورات وقطع الغيار، وساعات «التكة متر» الخاصة بالقطارات». يتابع: «حتى أن القطع المعطلة من الأردن كانت تنقل إلى معمل رياق لإصلاحها وإعادتها عبر خط رياق ـ جنتا ـ يحفوفا ـ سرغايا ـ دمشق ـ الأردن».

كان الصبية يرشقون
القطارات ويضعون قطعاً نقدية ومسامير على السكة

لا يمكن إدراك مدى ضخامة محطة قطارات رياق إلا إذا تجوّلت في أرجائها، واطلعت على الباب الضخم لمعامل سبك المعادن والمعدات والآلات التي لا تزال بداخله، وعربات القطارات (عربة الجرّ) التي يزيد عددها على 15.
أمام معمل سبك المعادن في محطة رياق قطار ضخم ومصفّح، نال منه الصدأ واحتل حديده وفرن الفحم الحجري مقدمته. يقول أبو ربيع إن أحد المهندسين الألمان كشف خلال زيارته المحطة عن القطار المصفّح وأكد أنه «لم يصنّع منه إلا أربعة فقط في العالم لكونه ثقيلاً يفوق وزنه 160 طناً في حين يصل وزن غيره من العربات إلى 120 طناً»، لافتاً إلى أن القطار المشابه له في ألمانيا يحتل اليوم مكاناً في أحد متاحف ألمانيا.
يتأسف الرجل السبعيني على عدم اهتمام الدولة وحتى المجتمع المحلي بالمحطة وقطاراتها، ويقول: «ضيعانها لأنها جزء من تاريخ رياق والبقاع كله»، كاشفاً عن محاولات قام بها وعدد من أبناء رياق لإنشاء متحف للقطارات، «إلا أن البلدية والوزارات المعنيّة بددّت تلك المشاريع».

الاكسبرس والأوتوماتريس

أنواع القطارات التي سلكت خطوط سكة الحديد اختلفت بين قطار «الإكسبرس» المخصّص للسياح على خط بيروت، والذي يحوي غرف منامة ومطبخاً، إلى قطار «أتوماتريس» ذي العربة الواحدة (طولها 20 متراً ومن دون مقطورات) والمشهورة بسرعتها الكبيرة، فتستغرق الرحلة من بيروت إلى حلب 3 ساعات فقط. أما أبطأ القطارات فكان قطار الركاب والشحن الذي لا تتعدى سرعته 16 كلم بالساعة، «وإن تجاوزت سرعته 20 كلم بالساعة بحسب ساعة «التكة متر»، ينظم المأمور ضبط سرعة بحق السائق».

محطة بعلبك

إلى محطة بعلبك وبنائها المقابل «لأوتيل المحطة»، والباحة الأمامية الواسعة التي كانت تغصّ بالمسافرين والتجار والمكارية (عتّالين). على مسافة عشرات الأمتار من المحطة في بعلبك، منزل أحمد رعد آخر الموظفين السبعة من بعلبك في سكة الحديد. ناطور المحطة، ابن مدينة الشمس سكن مبنى المحطة أكثر من أربعين عاماً مع عائلته، أمضاها في خدمة المهنة التي أحب رغم مخاطرها ومشقّة العمل فيها. كان يتوجّب على رعد كناطور أن يوفّر التواصل بين محطتي بعلبك واللبوة بواسطة هاتف «المانيفيل». وكان عليه أن يكشف سيراً على الأقدام على سكة القطار بين المحطتين ولمسافة تصل حد 30 كلم، يراقب فيها قضبان سكة الحديد، ليطلب من عمال الصيانة التوجه لإصلاح أي عطل قد يكتشفه.
ذاكرة ابن الـ88 سنة تختزن صوراً من أربعينيات القرن الماضي. يظهر ذلك جلياً من ابتسامته الخجولة التي تسبق كلماته «المحطة كانت داخل غيضة من أشجار الحور، وإلى جانبها أوتيل المحطة (التابع للمطرانية)، والمصرف المركزي. «كانت الدني كلها تجي لهون ع المحطة»، ناس يقطعون تذاكر وتجار يحملون بضائعهم والمواشي». يستدرك فيقول: «بس المحطة خرّبوها، وانسرقت إيام الحرب وصارت متل خربة ما فيها شي، والدولة آخر همّها محطات القطارات وتاريخ طويل من الذكريات المجبولة بالشقا والتعب»، يقول رعد بأسى واضح وهو يمسح عينيه الدامعتين.

أشغال شاقة

يؤكد جورج معكرون أن الأعمال في سكك الحديد كانت «أشغالاً شاقة بامتياز» لما فيها من صعوبات ومخاطر على العمال. عبارة «الدرايمون» كانت تعني لدى عمال الإنقاذ عملاً شاقاً وغياباً لأيام وليال عن عائلاتهم ومنازلهم في مختلف الظروف المناخية والتوقيت النهاري أو الليلي. فعند انقلاب إحدى المقطورات، أو خروج قطار عن سكته يطلب من «الدرايمون» تحضير زوادته وثياباً له لأنه سيغيب لأيام، فضلاً عن المجهود الجسدي الكبير الذي سيبذله، إذ كان عليه استعمال «الونش اليدوي» لرفع عربة تزن ما بين 40 و80 طناً وحملها بالسنتيمترات لإعادتها إلى مكانها. القطار الذي يعمل على الفحم الحجري والوقود السائل كان بحاجة إلى تنظيفه وغسيله كل يومين. أما العمال المسؤولون عن تصليح قضبان حديد السكة، فيتوجب عليهم ركوب «كراجة حديدية» (شبيهة بكراجة المناجم)، ويستعملون «المانيفيل» فيها (إبان أيام العثمانيين، أما خلال فترة الانتداب الفرنسي، فقد استقدموا سيارات خاصة تسير على سكة الحديد بدواليب خاصة)، للانتقال إلى مكان التصليح.

الأهمية الاقتصادية

يلفت دكتور التاريخ حسين حمية إلى «الأهمية الاقتصادية الكبيرة للقطار ومحطاته» موضحاً أن مصلحة القطار كانت توفر العمل منذ بداية القرن الماضي «لأكثر من ألف عامل يتوزعون بين محطة رياق ومعاملها، ومحطات باقي القرى البقاعية، بين عامل وموظف وكاتب وسائق قطار ومأمور ونواطير وغيرها من الوظائف، برواتب تتراوح بين 60 و200 ليرة». وبالإضافة إلى عمال مصلحة القطارات، يشير حمية إلى ارتباط عمل مئات المكارية (العتالين) من سائر القرى البقاعية، بمصلحة القطارات منذ تأسيس الخطوط بدءاً من عام 1898، حيث كان بعضهم ينقلون البضائع بالاعتماد على عربات تجرّها خيول، في حين تلجأ غالبيتهم إلى نقل حقائب المسافرين من القرى إلى محطات القطارات والعكس.
كما كانت للقطارات مساهمة واضحة في عمليات التبادل التجاري بين البقاع الغني بالمزروعات، والشمال (الترابة من معمل شكا)، وبين سوريا وتركيا، إذ كانت تستورد المواشي على اختلافها من سوريا، والفوسفات من الأردن.

محاولة يتيمة

بعيداً عن التاريخ والذكريات، يرى أهالي القرى البقاعية في القطار «نعمة» كبيرة وخطوة متقدمة باتجاه التطور والحضارة، في حال أقدمت الدولة على إعادة إحياء هذا القطاع. ويذكر البعض أن محاولة وحيدة جرت في أيار من عام 2012 لتأهيل خط سكة حديد رياق سرغايا، سرعان ما توقف العمل بها. وأمام هذا الواقع، يصبح طريفاً ما تمنّاه أحد المسنّين في بعلبك، «يا ريت يرجعولنا قطار واحد، يكون يشتغل على مشحرة فحم حجري، حتى نحجز فيها تذاكر لدولتنا ومسؤوليها، وينطلق فيهم برحلة «سفر برلك» طويلة على سكة ما فيها إلا خط روحة بلا رجعة!».