أولغا بارسوميان


كان الصوت يقترب شيئاً فشيئاً. شعرت الشقيقة الكبرى، التي كانت تبلغ من العمر 21 سنة حينذاك، أن خيارات النجاة كانت ضئيلة. هي وشقيقتها الصغرى، ابنة الثماني عشرة سنة، على حافة نهر الفرات، فيما الجنود الأتراك على بعد أمتار قليلة. من دون تفكير بألم النهايات، أمسكت بيد شقيقتها وشدّتها إلى النهر.
هوتا كمنديل ورقي، وهناك استسلمتا للموت. كان ذلك أفضل من خيار البقاء على ضفّة الفرات. الغرق أفضل بكثير من تناوب الجنود الأتراك على اغتصابهما. هذه هي الصورة التي تحتفظ بها أولغا بارسوميان عن الإبادة الأرمنية ـ غرق خالتيها في الفرات ـ الصورة التي بقيت والدتها تبكيها حتى آخر يومٍ من حياتها. تتذكر أولغا أن أمها «قضت ثمانين سنة وهي تبكي شقيقتيها ومن ثم شقيقها الذي كان أول شهيد في المعركة التي خاضها الأرمن مع الأتراك في قرية عيناب».

لا تتذكر أولغا والدتها من دون عينيها المتورمتين، إذ لم ترها يوماً من دون دموعها. كانت تبكي بحرقة وتعمد لإخبار أطفالها الذين ولدوا لاحقاً في حلب كل ما حدث معها وعائلتها أثناء الإبادة. جعلت تلك الأحاديث قصة ما قبل النوم. كانت «تريدنا ألا ننسى».
ان لا ننسى قصتها وشقيقاتها في عيناب، عندما استعبدتهن نساء الأتراك، فكنّ يجبرنهنّ على العمل في «الحياكة طيلة النهار، مقابل إطعام شقيقهم الصغير ليمونة، مع ذلك، كانت الشقيقات تشعرن بالفرح عندما يأكل الصغير تلك الليمونة». ستروي أولغا تلك القصة وتبكي، كما يحدث في كل مرة. لا تستطيع أن تنسى ألم والدتها. تشعر بأنّه يحدث للتو، كلما تذكرت تفصيلاً من الحكاية التي بدأت في عيناب. وكأنها تستعير ذاكرة والدتها، تستعيد أولغا، ابنة الجيل الأول بعد الإبادة، كيف «بكى إيبو التركي (ابراهيم)، زميل جدي في العمل، عندما جاء لتوديعه قبل أن يهرب وعائلته من الجنود الأتراك». يومها، قال له إيبو: «غارودج ما فيي عيش بلاك». كان ذلك مؤثّراً، ولكن «بلا فائدة». هرب جدّي، ومعه والداي اللذان كانا قد تزوجا حديثاً، إلى حلب. تتذكر أولغا أن والدتها أخبرتها «أنه أثناء ما كانت العائلة تجهّز نفسها للهرب، كان الجيران الأتراك يسرقون ما تيسّر من الأغراض من جانب البيت، عندها قالت لهم والدتي: خذوا المفتاح وافعلوا ما تريدون علناً».
في حلب، ولدت أولغا وبعدها أشقاء كثر. كبر الأولاد على قصص الإبادة التي أخذت شعباً. تعلّمت اللغة الفرنسية وعلّمتها عشرين عاماً في حلب، وصارت تستخدمها للحديث عن الإبادة أمام من لا يتقن اللغة الأرمنية. وهناك، تزوجت وولدت أطفالها الثلاثة وبقيت حتى عام 1957 عندما انتقلت مع عائلتها إلى منطقة زقاق البلاط في لبنان، حيث استقرت نهائياً.
وكما فعلت والدتها، حفظت أولغا قصة ما قبل النوم وأعادت روايتها لابنتيها وابنها. وأضافت إليه ما قرأته في الصحف «عن الفتيات الجميلات اللواتي كان يخيرهن الجنود الأتراك بين الزواج من تركي أو الاغتصاب والقتل». كذلك، حرصت أولغا على تعليم أطفالها اللغة الأرمنية «لأنها بالنهاية هي كل ما تبقى لنا». كبرت الفتاتان، فيما بقي الصبي ملاكاً. توفي في الثالثة عشرة من عمره. بكته والدته كثيراً، لكنها كانت تواسي نفسها، بما عانته والدتها.
منذ بضع سنوات، سافرت وابنتيها إلى أميركا، كي تكملا الدراسة. لم تحتمل أولغا أكثر من خمس سنوات هناك وطلبت من ابنتيها أن تعود إلى لبنان. قالت لهما: «بدي شوف بيتي». عادت أولغا إلى الزقاق.
قبل عامين، انتقلت أولغا إلى دار العجزة الأرمني. لا تعرف كيف صار هذا بيتها. تعرف أنها دخلت المستشفى وخرجت في اليوم التالي إلى الدار. حتى هذه اللحظة، ترفض أولغا تفريغ ثيابها من الحقائب. تريد أن تعود إلى بيتها، فهناك «كل غرض إلو مطرحو».


لوسي ديرمارديروسيان




رأت رأس زوجها يتدحرج أمامها. قالوا له: «بدك تروح معنا». رفض، فقطعوا رأسه. فصلوه أمامها. لم تصرخ. وقفت تتفرّج على رأس زوجها السابح في دمه. لم تعرف كيف هربت بطفلها، الذي هو أبي، وكان عمره في ذلك الحين شهرين. بقيت أياماً بلا طعام. خارت قواها. جفّ صدرها من اللبن. لم تعد تجد ما تطعمه لابنها. صار يبكي وصارت تبكي معه، إلى أن وصلت إلى معمل مهجور «في منطقة ديار بكر لمكانس القش» تقول لوسي. هناك، اختبأت مع طفلها، وبدأت تأكل بذور القش. عاد اللبن إلى صدرها «فأطعمت والدي، وبقيت أياماً على تلك الحالة». وفي إحدى الليالي بينما كانت مستلقية في ذلك المكان، سمعت أنين طفلٍ، فظنت أنه ابنها. نظرت إليه، فوجدته نائماً. اقتربت من الصوت، فوجدت أمامها طفلين. أخدتهما ووضعتهما إلى جانب ابنها. ربتهما هما الآخران على بذور القش.
كبر الثلاثة. تزوجوا. وكبرت «جدتي قبل أوانها». أتتها التجاعيد مبكرة. كانت لا تزال في الستين من عمرها، عندما تجعّد وجهها ويداها وتقوّس ظهرها».
يحفظ أحفادها، بمن فيهم لوسي، «قصّة بذور القش». أمس، وبينما كانت لوسي تعيد رواية بذور القش، رأت الاستغراب في عيون الكثيرين، قطعت روايتها وقالت: «الأرمن عانوا أكثر من ذلك بكثير، وقصة جدتي رويتها وهي موثقة في كتاب عن الإبادة».
تتابع لوسي حكايتها: «بقيت جدتي في ديار بكر حتى عام 1952، وفي تلك الفترة كان والدي قد أصبح شاباً، وكانت جدتي قد أخبرته ما فعله الأتراك ونمت حب وطنه فيه، فصار يحارب الأتراك على طريقته، كان يصعد إلى سطح المنزل يرسم علم ارمينيا ويعلّقه وفي كل مرّة كان يفعل ذلك، كانوا يضربونه ضرباً مبرحاً».
في عام 1952، بدأ التضييق على الأرمن في ديار بكر. هربت جدتي إلى لبنان. تزوج والدي «وولدنا نحن». صارت جدتي صوت الإبادة التي أخذت منها زوجها وأقاربها. حفظنا منها قصص كثيرين راحوا شهداء، كما انتماءنا القوي لوطننا الأم. وقبل أن تموت أوصت والدي بأن يكمل ما بدأته وأن يعلمنا أن «وطننا وديننا وحزبنا أولى من أي شيء».
تذكر لوسي عن جدتها أنها بعد 33 سنة من تهجير عائلتها، التقت صدفة بشقيقتها في الموصل العراقية. تعرفت إليها «على اللايحة»، بعدما كان كثيرون قد قالوا لها إن صبية تشبهها في الموصل. كان هذا عزاؤها الوحيد. أما شقيقتها الأخرى، فلم تعرف عنها شيئاً أبداً. تعرف فقط أنها تجرأت على خنق ابنتها، ابنة الستة عشر عاماً، ودفنتها في الطريق إلى المنفى، لأنها كانت جميلة وخافت أن يغتصبها الجنود الأتراك أمام عينيها. قتلتها بدمٍ باردٍ خوفاً من أن تراهم يتناوبون على اغتصابها. ربما، كان أسهل عليها أن تقتلها بيديها من أن تتجرّع الألم، وهي تراها بين يدي جلاديها.
كبرت لوسي على تلك الحكايات. علمتها هي الأخرى لأطفالها، وهي تطلب منهم دائماً أن يتذكروا تعليمها لأطفالهم في ما بعد. تعرف بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لحفظ ذاكرة شعب كاد يُباد. ولو لم تفعل جدتها، وغيرها الكثيرات ذلك، لما «كنا في الذكرى المئوية نسترجع تلك الحكايات بتفاصيلها».
هي الأخرى، لا تريد العودة إلى ديار بكر في هذه الحالة. قد تعود يوماً ما، ولكن بشرطٍ واحد: أن يعترف الأتراك أنهم «أبادوا شعباً طيباً».

دركين توفينتجيان



تعتذر عاملة الاستقبال من ضيوف دركين، المنتظرين في صالون دار العجزة الأرمني، عن أسباب تأخّرها في غرفتها، وتردف بابتسامة خجولة: «بدها تحطّ روج»، ثم تدير ظهرها، مهرولة نحو مكتبها المقابل للصالون. من هناك، من خلف الزجاج، ستراقب حركات الشفاه وتبتسم، وستعرف بأن الحديث يدور الآن عن دركين، السيّدة التي صار لها من العمر سبعين، والتي ترفض الخروج من غرفتها من دون «الروج». الكل يعرف ذلك في الدار، فالأناقة بالنسبة إلى دركين «أهم شي»، تقول إحدى المقيمات هناك، وهي ترتشف القهوة مع صديقتها في فترة استراحة ما بعد الظهر.
ينتهي الهمس ويحل صمت طويل، قبل أن تخرج دركين بأناقتها اللافتة، فلا يفوتها تنسيق الألوان، ما بين «الفولارد» البنفسجي الملفوف حول عنقها واللون الوردي على شفتيها. تمشي بتأنٍ، متأبّطة كتاباً... وهي العادة التي لم تفارقها منذ مجيئها إلى الدار، قبل عامين. تجلس إلى الكرسي، وترحّب بصوتٍ خفيض بالزائرين. لا تنتظر السؤال من أحد، فهي تعرف بأن سبب الزيارة هو لـ»الحديث عن الإبادة أليس كذلك؟». وقبل أن تنتظر الإجابة، تفلفش الكتاب بيديها الرقيقتين قائلة: «البارحة، بدأت بقراءة هذا الكتاب عن شهودٍ يروون ما الذي حصل وقتذاك، وقد أهداني إياه صديق قبل فترة وجيزة»، ثم تردف بحزن: «كلما قرأت فصلاً، أشعر برغبة في البكاء».
دركين، التي ولدت في بيروت على بعد سنوات من الإبادة، تحتفظ بقصص كثيرة من العذاب الذي قاساه والداها أثناء التهجير من بلدة اكشيهير في تركيا، حيث ولدا. تحفظ ألمها جيداً. ترفض أن تنسى فصلاً واحداً مما عاشه الأرمن في لحظة الإبادة وما بعدها. تتذكر التفاصيل المملّة، كأن تفرغ من ذاكرتها قصة طويلة عن الطريق التي سلكها والدها من تركيا إلى حلب ومنها إلى لبنان، مع ما رافقها من ألم ونوبات بكاء. وأكثر ما يؤلمها «فستان عرس أمي، الذي خاطته ووالدي، لتراه على جسد فتاة تركية أثناء هربها». يومذاك، «بكت والدتي بحرقة لأنها لم تستطع أن تحمل هذا الشيء البسيط الذي رسمته بيديها». خرجت من اكشيهير بلا شيء، فالجنود الأتراك كانوا يفتشون الهاربين ويسلبونهم ما يحملونه معهم، حتى أوراقهم الثبوتية. تروي دركين قصة والديها اللذين «كانا مخطوبين، عندما أنذرت الحكومة التركية الأرمن الذين يسكنون أراضيها بالرحيل خلال فترة وجيزة، وإلا ستعمد لقتلهم. يومها، تشتتت العائلة: عائلة أمي هربت إلى جهة لم تعرفها أمي أبدأ وعائلة والدي ركبت الجمال المتوجهة إلى مصر، فيما هرب والداي إلى لبنان، عبر سوريا». على الطريق التي كانت بلا نهاية حينذاك، أوقف الجيش التركي والدها. سألوه: ما هو عملك. أجاب: «خيّاط». أوقفوه إلى جانب آخرين، «وسارت أمي من دونه». طلبوا منه أن يخيط ثياباً للعسكر. استجاب لطلبهم كي لا يقتلوه. لا تعرف كيف هرب والدها وكيف التحق بوالدتها. ما تعرفه أنهما تزوجا في دمشق «بالتياب العادية»، قبل أن يكملا مسيرهما إلى لبنان ويستقرا نهائياً «حيث ولدت أنا». في لبنان، عمل الوالد في الخياطة، وهي المهنة التي تعلمها في إزمير، فيما بقيت الوالدة لتربّي العائلة التي كبرت «حتى صرنا أربعة». مع ذلك، لم ينس «والدي أن ثمة غائبين، فانشغلوا في البداية بالتفتيش عنهم. أمي لم تجد أحداً وماتت وفي ذاكرتها الصورة الأخيرة لأمها وشقيقاتها، فيما والدي تمكن من إيجاد ابنة أخته في دمشق، وكانت قد تزوجت من تركي يسكن في سوريا، وبرغم من أن ذلك كان قاسياً إلا أن والدي تقبل مع الوقت أن يكون ثمة قريب في العائلة تركي». ربما، لأنه كان يسكن في سوريا ولأنها كانت بلا أوراق ثبوتية «كاس كاس يقولون باللغة الأرمنية، بلا دين يعني». هذا ما تخمّنه دركين... وإن كانت لا تقبل بما فعلته ابنة عمها. يبقى «التركي تركياً»، تقول. تقرّب الصورة أكثر كي تكون أكثر وضوحاً «التركي يشبه الإسرائيلي وما فعله في لبنان. كلاهما عدو».