غزّة | لطالما اتّسمت علاقة الكثير من الصحافيين الفلسطينيين بالمنظومة الرسمية بالنديّة، غير أنّ هذه العلاقة الصحيّة تهشّمت أخيراً على صخرة مخيمٍ للتعايش بين صحافيين ورجال أمن فلسطينيين.بين ليلة وضحاها، ضاعت المسافة بين الأجهزة الأمنية والصحافي الذي يُفترض أن يقضّ مضاجع السلطة. على مدار ثلاثة أيام، التحم 150 صحافياً مع رجال الأمن تحت سقف مخيّم التعايش في معسكر «النويعمة» قرب أريحا.

تحت ذلك السقف، كل شيء بدا هزليّاً وباعثاً على الألم في آنٍ معاً، بدءاً بعنوان المخيّم، مروراً بثياب الصحافيين، وليس انتهاءً بسيناريوهات تظهير صورة مغايرة لواقع الأجهزة الأمنية الفلسطينية. هذا المخيم الذي حمل عنوان «شركاء في الوطن، شركاء في الأمن»، دفع بالصحافيين إلى مكانٍ لا يتّسق مع أصواتهم ومهنتهم، إذ ظهروا في مشهد هزليّ صارخ، وهم يرتدون الزي العسكري ويخضعون لتدريبات قتالية تضمّنت مناورات واشتباكات وعمليات إنزال. هكذا، استخدمت السلطة ــ بأمر من الرئيس محمود عباس ـــ الجسم الصحافي كأداة لتطهير صورتها من الخدوش التي تلازمها، خصوصاً على صعيد التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم محاولة الأجهزة الأمنية تلميع صورتها عبر أهل مهنة المتاعب، لم تنطلِ هذه الحيلة على الأوساط الشعبية وصحافيين آخرين. ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بانتقادات واسعة حول ذوبان الصحافيين المشاركين في المنظومة الرسمية، وتحوّلهم إلى أبواق تروّج لعبارات مثل «العين الساهرة» و«حماة الوطن» وغيرها التي يردّدها عادة الفلسطينيون من باب التندّر. هذا المخيّم الذي كان واحداً من سلسلة مخيّمات واظبت الأجهزة الأمنية على إقامتها منذ حوالى ثلاث سنوات، حمل في طيّاته عدداً كبيراً من المفارقات. ولعلّ أهم هذه المفارقات هو أنّ ثمّة صحافيين يقاسون خلف قضبان سجون السلطة، في وقتٍ يرفع زملاؤهم بمشاركتهم في المخيم أيديهم عن مواجهة الأجهزة الأمنية التي تستمرئ إهانة الجسم الإعلامي، وتوجيه تهم كاريكاتورية له من قبيل «إثارة النعرات الطائفية»، مثلما حصل مع مصوّر فضائية «الأقصى»، أسيد عمارنة، المضرب عن الطعام منذ أيام على خلفية اعتقاله التعسفي (الأخبار 9/3/2015)، والصحافي هشام أبو شقرا. تكفي نظرة سريعة على الواقع الأمني في الضفة المحتلة لنسف الأساسات التي قام عليها مخيّم «شركاء في الوطن، شركاء في الأمن» والوصول إلى مزيد من المفارقات. إذ تبدو «العين الساهرة» نائمة وسط حوادث اشتعال جذوة المخيمات الفلسطينية التي يستبيحها الاحتلال ليلاً نهاراً لقتل المقاومين، دونما أن تهتزّ الأجهزة الأمنية لذلك وتخرج سلاحها دفاعاً عن شعبها. بذلك، بدا المخيّم «التعايشي» بين رجال الأمن والصحافيين شكلاً من أشكال استعراض العضلات والانعزال عن المحيط الفلسطيني، وبغطاء صحافي لافت.
أمّا المفارقة الأكثر فجاجةً، فتجلّت في أنّ ثمّة فلسطينيين من مخيّم «بلاطة» (نابلس ــ شمال الضفة الغربية) معتقلون على مرمى حجر من معسكر «النويعمة»، ويتعرّضون لتعذيب شديد على يد الأجهزة الأمنية التي صوّرت معركتها معهم على أنّها «معركة الحق ضد الخارجين عن القانون ومروّجي المخدرات».
هكذا، انتقل الصحافيون المشاركون في المخيم من مزعجين للسلطات وكاشفي عوراتها إلى ساكتين عن ممارسة جلّادي شعبهم، بعدما حازوا شهادات «التعايش» المختومة من الأجهزة الأمنية، وبحضور نقيب الصحافيين عبد الناصر النجّار. كما تثير المشاركة في هذا الحدث مجموعة من التساؤلات، أهمّها عن حدود العلاقة بين المنظومتين الرسمية والإعلامية، وعن فاعلية مخيّمات «التعايش» في توسيع مساحة الخطوط الحمراء التي يخشى الصحافيون كسرها. كلّها تساؤلات توضع للصحافيين المشاركين برسم الإجابة.