ثبّت المرآة النصفية في سيارته على وجهها وغمزها. لم تُعره اهتماماً، اعتادت زينة على هذه المواقف التي تتعرّض لها في كلّ مرة تقريباً تستقل فيها سيارة أجرة من بيتها إلى الجامعة وبالعكس. لكن السائق لم يكتفِ بهذه الإيحاءات، بل غيّر مساره ليسلك طريقاً غير الطريق المعهودة لبيتها، حينها أحسّت بالخطر، احتارت، ارتبكت، فزعت، صرخت لكن من دون جدوى فالمنطقة مقفرة والسائق أقفل جميع الأبواب. استسلمت حينها للدموع والدعاء وبدأت ترجوه وتتوسل إليه أن يتركها وشأنها، لكنه كان يتوعدها بليلة حمراء لم تشهدها من قبل.
وصل السائق إلى شقته، أقفل الأبواب وهدّدها بالقتل في حال رفعت صوتها بالصراخ، لكن المضحك المبكي أنه أجبرها على تنظيف منزله وإعداد الطعام له قبل إشباع رغبته بها، فاستغلّت زينة هذا الوقت، واستجمعت قواها وشجاعتها، حتى إذا همّ بالانقضاض عليها أقنعته بأنها مصابة بمرض «السيدا»، وأن أي علاقة قد تحصل بينهما سوف تنقل إليه العدوى. لم تكن زينة تتوقع أن يقتنع بهذه الحجة، لكنه أحسّ بجدية ما تقوله فاضطرب وخاف وأبعدها عنه وأخلى سبيلها.
محاولة اغتصابها فشلت، لكن اغتصاباً معنوياً عميقاً لا يزول لا بالترميم ولا بالتجميل قد حدث. لم تكن زينة الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة، فالتحرّش في الأماكن العامة وخصوصاً في النقل العام يلازم كل فتاة كما ظِلها، كل واحدة لها قصة أو قصصاً، لكن كثيرات منهن يفضلن السكوت وإضافة حادثة أليمة أخرى إلى الذاكرة.
«ليس التحرّش الجنسي هو الفعل المؤدي إلى الاغتصاب فحسب كما يعتقد الكثيرون»، تشير المحامية والناشطة في مجال حقوق المرأة إقبال دوغان إلى «أن كل سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق المرأة أو يعطيها إحساساً بعدم الأمان وقد يكون إيحاء لفظياً أو معنوياً أو حسياً». يمكن أن يكون غمزة، لمسة، كلمة، ويمكن أن يتطور ويصل إلى الاغتصاب، لكن هذا التعريف الذي تقدّمه دوغان ليس تعريفاً قانونياً لأن المشترع اللبناني لم يُشر إلى هذا الموضوع بشكل مباشر، كما تؤكد.

لا نص صريحاً يدين التحرّش إلا في حال استخدام العنف والتهديد

فليس هناك نص صريح يدين هذه الاعتداءات إلا في حال استخدام «العنف والتهديد»، فبحسب المادة 507 من قانون العقوبات اللبناني «من أكره بالعنف والتهديد على مكابدة أو إجراء فعل مناف للحشمة عوقب بالأشغال الشاقة مدة لا تنقص عن أربع سنوات»، ترتفع إلى ست سنوات على الأقل في حال كان المعتدى عليه لا يتعدى الخامسة عشر من عمره.
وترى دوغان أن من الأسباب المؤدية لتفشي هذه الظاهرة غياب القانون. «ليس هناك قانون يجرّم التحرّش الجنسي في الأماكن العامة ومنها النقل العام، وفي مكان العمل كما كثير من البلدان، بالرغم من امكانية الاستفادة من بعض المواد المدرجة في قانون العقوبات تحت عنوان الإيذاء قصداً والتي تنص على حبس المعتدي من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات بحسب حجم الأذى، يمكن أن تصل إلى عشر سنوات مع الأشغال الشاقة في حال تسبب فعل الأذى في تشويه الجسم أو إحداث عاهة دائمة» تقول. لكن حتى هذه القوانين لا تطبّق، لتكون رادعة للمعتدي بعدم تكرار فعلته ولغيره من المعتدين لأسباب مختلفة، أهمها الآلية المتبعة في القضاء لجهة التسويف والمماطلة فالقضايا يمكن أن تمتد لسنوات من دون إصدار الأحكام وتنفيذها، يضاف إليها لجوء النساء المتعرّضات للتحرّش إلى الصمت وعدم تقديم شكوى ما يؤدي ليس فقط إلى ازدياد التحرش بل إلى اعتباره ظاهرة عادية في المجتمع.
قد يرى البعض أن من الأسباب المؤدية للتحرّش ملابس النساء غير المحتشمة أو طريقة تصرفهن، لكن وفق دوغان «هذا التصرف غير مرتبط بالمرأة بقدر ما هو مرتبط بسلوك الرجل وبالمجتمع الذي تتحكم به عقلية ذكورية، وهو شكل من أشكال العنف الممارس على أساس النوع الاجتماعي».
تدعم قصة فاطمة ما تقوله دوغان، ففاطمة محجبة وخريجة مجتمع محافظ، لدرجة أنها كانت لا تسمح لأي رجل بالجلوس إلى جانبها في باص الدولة، بناء لوصايا والدتها، إلا في تلك المرّة. فهي الآن محصّنة كما تظن: متزوجة وتحمل طفلاً بين يديها، لكن الجالس إلى جانبها ظلّ يحاول الالتصاق بها، وهي تتهرّب منه، إلى أن مدّ يده من تحت جريدته لتستقرّ على فخذها، للحظة اعتقدت فاطمة أن ما شعرت به هو محض خيال إلى أن تكرّر، عندها قامت من مقعدها وصرخت في وجهه «أبعد يدك عني!».
جملة تردّدت أصداؤها في كل أرجاء الباص وطرقت أسماع جميع ركابه، لكن أحداً لم يعبأ بما تقول، الكل (نساءً ورجالاً) تضامن في صمته مع «المتحرّش»، بل أكثر، تقول فاطمة «كانت نظراتهم تشي باللوم والاشمئزاز مما فعلت، تمنيت لحظتها لو أنني لم أبح بشيء، لو أن الأرض انشقت وابتلعتني قبل أن أتحمّل كل هذا العقاب الجماعي». أما المتحرّش المستقوي بردة فعل مجتمعه، قام من جانبها وهو يتقمص دور «المحترم المظلوم» وجلس في مكان آخر، وظلّ ركاب الباص يرمقونها بتلك النظرات إلى أن نزلت. لم تخبر فاطمة أحداً بهذه القصة إلى اليوم لا أمها ولا أباها ولا حتى زوجها، خوفاً من ردّة فعلهم التي يمكن أن تصل إلى منعها من الخروج وحيدة، لكنها عادت لإجراءاتها الاحترازية، أصبحت تحجز المعقد الذي بجانبها بالإضافة إلى مقعدها في كل مرة تستقل فيها باصاً.
يضاف إلى هذه الأسباب غياب التنظيم عن قطاع النقل العام في لبنان، الأمر الذي لا ينفيه رئيس «نقابة سائقي سيارات الأجرة» مروان فياض، لكنه يؤكد أن 95% من حالات التحرش الجنسي المسجلّة في قوى الأمن الداخلي كانت جميعها من «دخلاء على المهنة»، كما يصفهم، «وحصلت في سيارات أجرة تحمل لوحات مزيّفة، وقد جرت ملاحقتهم وتوقيف عدد كبير منهم، ومن جهة أخرى». إذ يتخطى عدد اللوحات المزورة الـ25 ألفاً لسيارات الأجرة، والـ15 ألفاً للحافلات الصغيرة، والـ10 آلاف للحافلات الكبيرة، في حين أن عدد سيارات الأجرة المرخص لها في لبنان يقدّر بنحو 33 ألفاً، و4000 حافلة صغيرة، و2800 حافلة كبيرة! بحسب فياض.
يحصل التحرش الجنسي في وضح النهار، ويتعرّض له الكبار في السن والصغار على السواء، ويحصل في الشوارع وفي سيارات الأجرة وفي الحافلات الصغيرة والكبيرة، لكن في مجلس النواب لا تزال مشاريع قوانين تجريم التحرش الجنسي، وتنظيم مزاولة مهنة النقل العام للركاب نائمة في الأدراج. ربما، تحتاج النساء إلى التدرب على الفنون القتالية كالكاراتيه مثلاً لحماية أنفسهن، كما تقترح دوغان، خلال فترة سبات النواب الممدّدين لأنفسهم!